المغرب - الباعة المتجولون و"لعبة القط والفأر"
٧ نوفمبر ٢٠١٦قبل نحو عام من حادثة مقتل بائع السمك المغربي محسن فكري، التي هزت الرأي العام داخل المغرب وخارجه، كانت الحكومة المغربية قد أعلنت خطة للتعامل مع مشكلة الباعة المتجولين، واقترحت ضمنها منح بائعي الأسماك المتجولين دراجات نارية لمساعدتهم على نقل منتوجاتهم في الأسواق، بيد أن الفكرة لم تطبق في الواقع وبقيت تتأرجح بين ردهات البرلمان ورفوف الحكومة.
ويقدر خبراء عدد الباعة المتجولين في المغرب بنحو مليون و680 ألف شخص أي ما يعادل حوالي 15 في المائة من القوة العاملة في المغرب، لكن أنشطتهم تقع على الهامش وتعتبر حسب القانون أنشطة اقتصادية غير منظمة.
لكن اليوم وبعد أن خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين في شوارع مدينة الحسيمة ومدن مغربية أخرى، احتجاجا على ظروف مقتل الشاب فكري، تعود قضية الباعة المتجولين إلى الواجهة..معاناة هذه الشريحة الإجتماعية تزداد مع مرور الأيام بازدياد أعداد الوافدين الجدد من "باعة متجولين" في شوارع المدن المغربية، وضمنهم خريجو جامعات، مثل الشاب سعيد، الذي لم يجاوز العقد الثالث من عمره، وتخرج سنة 2010 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط.
درس هذا الشاب تخصص التاريخ والحضارة، وبعد أربع سنوات من التحصيل العلمي نال شهادة البكالوريس بميزة حسن. كان سعيد يحلم بوظيفة أستاذ بالتعليم الثانوي، لكن الحظ لم يحالف خريج كلية الآداب، واختار مكرها بيع مستلزمات الهواتف المحمولة في الشارع.
يجلس سعيد بين العشرات من الباعة المتجولين بشارع الحسن الثاني وسط العاصمة الرباط. هذا الشاب تظل عينه الأولى على بضاعته والثانية على أفراد الشرطة المكلفين بتنظيم حركة السير ومحاربة الباعة المتجولين.
الإهانة سبب محاولة انتحار سعيد
يحكي سعيد كيف عاش خلال شهر رمضان الماضي أزمة نفسية حينما باغته أعوان السلطة، وحجزوا منه سلعته. أحس هذا البائع المتجول بـ"الحكرة" وهو مصطلح يقصد به الإهانة، حينما كان منهمكا في عرض بضاعته، حتى أمسك به عناصر الشرطة، وحجزوا بضاعته المعروضة. سعيد ظل يتوسل أعوان السلطة بإرجاع سلعته مقابل الانتقال بنشاطه إلى سوق شعبي آخر بالرباط. لكن مصالح الأمن أحالت المحجوزات على جمعية خيرية لتوزيع بضاعته على نزلاء الخيرية.
حينما قام أعوان السلطة بإحالة بضاعة سعيد، حاول الأخير الانتحار أمام الخيرية، بضرب يده بسكين. فاستدعى المشرفون على الخيرية مصالح الشرطة وسيارة إسعاف، ونقلوا البائع المتجول إلى المستشفى. يتذكر سيعد في حديثه لـ DWعربية، الأضرار النفسية التي لحقت به بعد حجز بضاعته. ويحكي في الوقت ذاته بمرارة عن وعود تلقاها رفقة العديد من خريجي الجامعات ومعاهد التكوين المهني بإحداث سوق كبير شرق العاصمة الرباط ينظمهم في إطار مهني. لكن مسؤولي الدوائر الحكومية أخلفوا وعودهم بمنحهم رخصا قانونية ومتاجر مجهزة، كما يقول. وحينما تبخر الحلم عاد سعيد إلى شارع الحسن الثاني الذي يكتظ بالكثير من زملائه في المهنة.
جواد شاب، 25 سنة، حاصل بدوره على ديبلوم في تخصص الميكانيك من معهد للتكوين في التكنولوجيا بمدينة وادي زم التي تبعد عن الرباط شرقا بحوالي 170 كيلومترا. لا تختلف حكاية جواد عن سعيد، فهو يعيش بدوره وضعا نفسيا غير مستقر، يعرض سلعته وهي ملابس أطفال وعينه طيلة النهار على أعوان السلطات المكلفين بتحرير الشوارع من الباعة المتجولين وتنظيم حركة السير والجولان.
ولا يخفي جواد مختلف مظاهر الإهانة التي يتعرض لها يوميا من قبل أصحاب المحلات التجارية والسكان وسائقي السيارات، لكنه يعترف بتسليمه إتاوات مالية لبعض أفراد الشرطة مقابل التغاضي عن أنشطته في الشارع العام.
معاناة السكان وأصحاب المحلات
في الوقت الذي يواجه فيه الباعة المتجولون السلطات الأمنية في الشارع العام. يعاني الكثير من أصحاب المحلات التجارية والسكان القاطنين بالشوارع الرئيسية من اكتظاظ الباعة المتجولين أمام محلاتهم ومنازلهم. واضطر الكثير من التجار المهنيين تأسيس جمعيات للمطالبة بتحرير الشارع من الباعة المتجولين.
ويقول عبد الجبار لحريشي وهو صاحب مجموعة من المحلات التجارية بالمدينة العتيقة بالرباط، أن معاناته أكبر بكثير من الباعة المتجولين، الذين يعرضون سلعهم في الشارع. يتذكر لحريشي دروب المدينة العتيقة حينما كانت قبل عقدين من الزمن خالية من الباعة المتجولين، ويسترجع الزمن إلى سنة 2001، حينما غزا حسب قوله أبناء "العروبية" ويقصد به الشبان القادمين من البادية، أزقة الرباط وشوارعها الرئيسية.
ويشير لحريشي إلى أن العديد من أصحاب المحلات التجارية كانوا قد أسسوا جمعية هدفها مطالبة السلطات الأمنية بمعالجة مشاكل الباعة المتجولين وتنظيمهم في مراكز مختصة. لكنه أقر بفشل مطالب التجار النظاميين، مضيفا أن المكلفين من رجال الأمن وباقي المسؤولين، لا يستطيعون "تحرير" جميع الشوارع، وأن الحملات الأمنية المنظمة ضد الباعة المتجولين ينطبق عليها المثل الشعبي "لعبة القط والفأر".
محاولات فاشلة لتنظيم الباعة المتجولين
في ماي الماضي، أقر الشرقي الضريس الوزير المنتدب في الداخلية المغربي، أمام أعضاء مجلس النواب، أنه جرى تشكيل لجنة حكومية لإعادة تنظيم الباعة المتجولين على صعيد جميع المدن قصد ضمان الكرامة لهم، وان هذه المبادرة تم الشروع في تطبيقها على أرض الواقع.
وأوضح الوزير في تصريحات نقلتها القناة الأولى(الرسمية) المغربية، أن الدولة تسعى إلى جمع الباعة المتجولين في أسواق جديدة، كما شرعت الوزارة في توزيع دراجات نارية كبيرة الحجم على فئة معينة لبيع الأسماك بطريقة منتظمة، إلى جانب تنظيم أسواق بـ"الأزقة" لها أوقات محددة في الافتتاح والإغلاق.
لكن هذه الإجراءات التي شرعت وزارة الداخلية في تطبيقها مؤقتا، يعتبرها الخبير الاقتصادي المغربي عزالدين أقصبي، حلولا "ترقيعية". ويؤكد أقصبي أن هناك صعوبات تواجه الحكومة المغربية في إعادة تنظيم الباعة المتجولين على صعيد جميع المدن المغربية، بعدما باتت الظاهرة تشكل بديلا للباحثين عن لقمة العيش، ليس من قبل النازحين من البوادي، وإنما لخريجي الجامعات.
ويؤكد الخبير المغربي أن إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط المغربية كشفت في دراسة لها مؤخرا أن عدد الباعة المتجولين بلغ مليون و680 ألف شخصا، وهو ما يصعب برأيه إعادة تأهيل وتنظيم هذه الشريحة. واستبعد الخبير الاقتصادي نجاح الفكرة، مضيفا أن مبادرة توزيع دراجات نارية كبيرة على بائعي السمك فكرة مفيدة، لكن الإشكال المطروح برأيه هل لدى الحكومة جميع الإمكانيات لتنظيم الباعة المتجولين؟
عبدالحليم لعريبي - الرباط