المشهد التشكيلي المعاصر في سورية: فن ما وراء الحدود
٢٨ أغسطس ٢٠١٠ها هم يجلسون ويخوضون نقاشا حول القيمة الاجتماعية لفن الرسم، ولا ينقص الجلسة إلا المزيد من ضوء الشموع الخافق ورائحة الشمع الذائب لكي يخال المرء نفسه في أجواء موسيقى بوتشيني. هذا الجمع البوهيمي يتفلسف الآن وهنا، في سوق ساروجة الدمشقي. والنتيجة التي توصل إليها هي أن فن الرسم مُهِمّ، ولكن ليس في سورية. المتحدثون في أواسط العشرينات من العمر يتساءلون: "من ذا الذي يقارن هنا حبيبته بلوحة فنية؟" ويستطردون بحماس: "لا يتم إلا استحضار الشعر في سبيل البوح بالحب."
لدى خالد سماوي هموم أخرى. الرجل الأربعيني يجلس في أغلى أحياء دمشق، منهمكًا بالاتصال مستخدمًا مختلف أنواع الهواتف. وهو بصدد تنظيم افتتاح معرض جديد في صالة عرضه القائمة منذ ثلاث سنوات. وماذا عن الاهتمام بالفن لدى السوريين؟ غير متطوّر! بيد أن هذا لا يهمّ خالد سماوي المتفائل، والذي يبدو وكأنه تجسّدٌ للعولمة. ففي محصلة الأمر زبائنه موجودون في كافة أنحاء المعمورة، من لوس أنجلوس مرورًا ببازل وصولاً إلى هونغ كونغ. لكن ليس في سورية.
سوق جديدة في الشرق الأوسط
يبدو أن البيع يجري على قدمٍ وساق "إلا في سورية". لكن الحديث يدور حول المشهد الفني السوري بالذات، المشهد الذي انتقل فجأة من العزلة الهادئة لتُسلَّط عليه الأضواء الدولية التي سطعت مع اهتمام دار كريستز العالمية بفن الرسم الحديث في الشرق الأوسط، ففي عام 2005 افتتحت هذه الدار العملاقة للمزادات لها مكتبًا في دبي، وتبعتها كل من دار "بونهامس" ودار سوثبيز ، التي افتتحت لها فروعًا هذا العام في الدوحة.
والآن تصل أسعار أعمال الفنان الإيراني فرهاد موشيري إلى 600 ألف دولار أمريكي، والفنان المصري أحمد مصطفى إلى أكثر من 650 ألف دولار، أما النجوم السوريين "فقد كانوا يبيعون في السابق أعمالاً بحجم متر مربع ونصف لقاء ثلاثة آلاف دولار واليوم لقاء 15 ألف" كما يقول خالد سماوي ضاحكًا. ومنذ فترة طويلة يستشرف تاجر الأعمال الفنية الذي كان سابقًا صاحب بنك في سويسرا، رواجًا للفن العربي خلال السنوات الخمس القادمة. وهذا التفاؤل ليس بلا سبب، فقد باعت دار كريستز عام 2008 لوحة زيتية للفنان فاتح المدرس بنحو 300 ألف دولار.
الفنان فاتح المدرس (1922-1999)، فنان السريالية السورية الكبير، إلى جانب لؤي كيالي (1934-1978) المرتبط بالمدرسة الواقعية، ورائد التجريد محمود حمّاد (1923-1988) يُعتبروا من الفنانين السوريين اللامعين الراحلين. أما بالنسبة للفنانين الحاضرين اليوم، فيتراوح مستوى أسعار أعمالهم بين 10 آلاف و 40 ألف دولار.
انصهار عناصر الأساليب المختلفة
لكن ما هو "الفن السوري"؟ ميساء شهاب التي يتم توصيلها إلى صالتها الجديدة للعرض "غاليري تجليات" بسيارتها الفضية الرمادية الفارهة ذات النوافذ المعتمة، تضغط لدى سماعها هذا السؤال على زر بدلا من الإجابة. إلا أن معلومات الناقد الفني الذي استشارته، لم توضح الكثير. ولم يختف الغموض لدى الاستفسار من خالد سماوي.
لذا ولكي يجد المرء الإجابة بنفسه، عليه العودة إلى العام 1960 وإلى افتتاح أكاديمية الفنون الدمشقية، حيث ازدهرت يومئذ سريالية-تعبيرية تصويرية، أرادت تجاوز الإرث البصري الذاتي. وكان كل شيء يجد طريقه إلى هنا: مسرح خال الظلّ العربي والفن الإسلامي المستوي الذي لا يعرف الضوء والظل. العفاريت الكنعانية والمخلوقات التدمرية المُجنّحة – والصوفية الحاضرة في سورية في الماضي والحاضر. فعلى نقيض البلدان الإسلامية الأخرى لم تقم الدولة العلمانية أبدًا بحظر هذا الإسلام الصوفي، ولم تجبره على التواري، وهو بالمناسبة مذهب سني حبيس النص الحرفي للقرآن.
تشكيل تصويري بالرغم من منع الصور
هذه الرسومات التصويرية المشغولة بألوان قوية من أعمال الفنانين إلياس الزيات ونذير نبعة اللذين يبلغان اليوم نحو السبعين من العمر. وما تبعها في الثمانينيات من أعمال أقل ميلودرامية لإدوارد شهدا وأسعد عربي وفادي يازجي هي الأعمال التي تأثر بها الجيل الناشئ إلى اليوم. بينما لم يجد الفن التجريدي رفيع المستوى الذي اعتمده الفنان عبد الله مراد على سبيل المثال الكثير من الأتباع. وهذا مثير للدهشة، لا سيما في بلدٍ مسلمٍ، حيث تم اقتصار الفن إلى حدٍّ كبيرٍ على مدى عدة قرونٍ على الخط والزخرفة من جراء الحظر المفروض على الصورة من قبل التقاليد الدينية. ومع هذا فإن الرسم التصويري هو الأكثر شيوعًا في الوقت الحاضر. وسبب ذلك يكمن بلا شك أيضًا في أن الإسلام المتزمت لم يستطع أبدًا فرض نفسه في كافة أنحاء سورية.
أما رقابة الدولة الجائرة فموجودة في كل مكان. لذلك لا يدفع الطابع المسالم للفنون التشكيلية بشكلٍ عام إلى الاستغراب. مثلا في أعمال الفنان الموهوب عبد الكريم مجدل بيك (26 سنة)، حيث يصوَر موضوع الزمن من خلال جدران منازل قديمة متداعية، ويمكن التساؤل عن سبب بقاء ما يحدث هنا وهناك مخفيًا خلف الأسوار.
لكن بصرف النظر عن أن الرغبة في المشاركة السياسية والاجتماعية النقدية من خلال الفن هي ظاهرة غربية في المقام الأول، لا بد للمرء من جانب آخر تَخَيُّل مدى تأثير الحضور الواسع للمخابرات على حياة السوريين اليومية. ولتكوين فكرةٍ عن ذلك يكفي السفر بإحدى حافلات النقل الصغيرة من دمشق إلى صيدنايا ومعايشة الصمت الجماعي لجمهور المسافرين المتنوعين إزاء المبنى الطويل لسجن صيدنايا.
ومع ذلك، فإن فن الرسم الحديث في سورية هو أكثر بكثير من مجرّد موجة جميلة ومربحة الآن، فهي تحمل في طياتها فهم فني جديد للذات في أوساط الجيل الشاب. ويتبيّن هذا مثلا لدى الفنانة هِبة عقاد، حيث تجلس ابنة السابع والعشرين عامًا على كومة كبيرة من أقمشة ملصقة ببعضها بعضا، بعيدًا عن أماكن الوسط التشكيلي الدارجة. تريد بشغفٍ شديدٍ أن تُجَسِّم المادة المستوية الميتة وتقول، إن هذا هو جدلها مع إرثها باعتبارها امرأة، وتضيف موضحةً إنها منذ أن وعيت على الدنيا مُحاطة بنساء يعملن بالخياطة.
ويبدو أن الجدل هو مبدأ الحياة العام لدى هذه الفنانة الشابة التي تشبه بحاجبيها الفنانة فريدا كاهلو. فقد ألحت طويلاً على عائلتها المُحافظة، التي ترى أن الصور مُحرّمةٌ وأن الحجاب لا بدَّ منه، حتى سمحت العائلة لها بالالتحاق بأكاديمية الفنون. ولم تدع المجال لأساتذة الجامعة ولا لزوجها في التدخّل في كولاج الأقمشة. لا بل وانفصلت بعد سبعة أشهر من الزواج عن زوجها وعن حجابها.
حافز جديد للجيل الجديد
لا يشير هذا في الوقت الحالي إلى المكانة الثقافية للفن السوري الفتي. ظاهريًا! إذ أنَّ الفن يتجدد في المواقع التي يكون مرتبطًا فيها نوعًا ما بالشك وبمساءلة فعلية للذات. ويظهر هذا جليًا من خلال أولئك الذين يسألون بغضب في سوق ساروجة عن سبب غياب صدى للفنون التشكيلية في البلد، لأن السؤال المضاد الذي من شأنه أن يفحمهم هو: "لماذا أنتم هنا إذًا؟" مجموعة حيوية من عشاق الفن، جزء منها ينحدر من البلد، ومنها من يكسب قوته اليومي عبر أعمالٍ أخرى غير الفن. أجل، ثمة شيءٌ يحدث في سورية، حتى وإنْ لم ينقَ الهواء من رائحة الشمع الذائب بعد.
منى سركيس
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010