موريتانيا: المديح..البعد الفلكلوري والعمق الديني
١٤ فبراير ٢٠١٤في عدة ولايات داخلية عرفت الساحة الموريتانية خلال السنوات الثلاث الماضية ميلاد مهرجانات وبرامج خاصة ب"المديح النبوي الشعبي". ورغم طابعها الربحي فإنها هذه المبادرات تسعى للخروج بالمديح الشعبي من إطاره الفلكلوري التقليدي الضيق الى دائرة الضوء وإضفاء بعد فني عليه من خلال اتاحة الفرصة للمداحين الشعبيين للظهور في صورة المحترفين الفنيين، إضافة إلى ما يعكسونه من بعد فلكلوري وعمق دينى.
يزداد اهتمام بعض الباحثين الآن بالمديح النبوي الشعبي وويعملون على الغوص في تاريخه وإبراز خصائصه كما يقارنونه بغيره من الفنون الشعبية والغنائية الاخرى،خصوصا وان المديح النبوي الشعبي يكاد يكون وجوده على فئة اجتماعية يطلق عليها الحراطين.
محمد الامين ولد ابراهيم باحث في التراث الفلكلوري، أنجز دراسة حول المديح الشعبي في موريتانيا ويوضح في حديثه ل DW قائلا: " رغم صعوبة تحديد تاريخ بدايات ظهور المديح الشعبي في المنطقة فإنني أعتقد أنه يرتبط بشعوب غير عربية استوطنت الفضاء الجغرافي الذي يشمل اليوم موريتانيا ومالي، وذلك بالنظر الى وجود كلمات في بعض النصوص المديحية مثل كلمة (أسكى eski) التي تعود الى فترة حكم الأساكية، أمراء امبراطورية السونغاي التي حكمت في غاوة ما بين القرن الحادي عشر و والسادس عشر للميلاد "
الرغبة في الحرية
في يومنا هذا يعتبر هذا النمط من المديح في موريتانيا نتاجا ثقافيا لطبقة "الحراطين" ،وهؤلاء يمارسون المديح بشكل يختلف عن الموسيقى التقليدية التي تمارسها فئة الفنانين التقليديين المعروفين محليا ب "إيكاون". الباحث ولد ابراهيم يشير في هذا السياق الى التنافر التاريخي بين طبقة رجال الدين في الزوايا التي تلقى فيها (الحراطين) أوزان وكلمات المديح النبوي وبين طبقة الفنانين التى مارست الموسيقى من خلال أساليب مختلفة.
ويرى الباحث ولد ابراهيم بأن المديح النبوي الشعبي لدى الحراطين ينطلق في الغالب من رافدين رئيسيين: اولهما الثقافة العربية الاسلامية التي تتجلى في المضمون الديني الذي يتغنى بأمجاد النبي الكريم محمد وبأعماله وخلقه أوبذكر مناقب صحابته ، حيث يتم ذلك في سياق زمنى محدد وهو مساء الجمعة أو ليلة المولد النبوي. أما الرافد الثانى فيتجلى في الثقافة الزنجية وفي تأثيرها من خلال الطابع الشعبي الفلكلوري وما تعكسه الحالة النفسية للمادح من تفاعل حركي خلال الأداء.
ويشرح ولد ابراهيم التفاعل الحركي للمداحين الشعبيين بالرغبة في التعبير عن الحرية والانعتاق، حيث إن السهرات المديحية تتم عادة بعد الانتهاء من الأعمال اليومية التي يقوم بها العبيد السابقون لخدمة أسيادهم، وبالتالى فهم يجدون في السهرات المديحية لذة الإستمتاع بأوقات الحرية بعد يوم من العمل الشاق.
خصوصية طبقية
بغض النظر عن البعد الدينيى الذي يوحد كل طبقات المجتمع الموريتاني فإن المديح النبوي الشعبي يعكس نوعا من الخصوصية الطبقية داخل هذا المجتمع الذي عرف عبر تاريخه تقسيما وظيفيا، لازال قائما حتى الآن. ويعتقد محمد الامين ولد ابراهيم أن "المديح الشعبي يؤدى من طرف العبيد السابقين، حيث تلقوا ذلك شفهيا من طرف الطبقة العالمة التي كانت تحتكر الدين، وكانت وسيلة فعالة لتعريف العبيد بالسيرة النبوية ومبادئ العقيدة الاسلامية "
لذلك يطالب الباحث في تاريخ المديح الشعبي ولد ابراهيم بوضع هذا الفن الروحي في اطاره الصحيح واعتباره جزءا من تاريخ شعب ، عوض اعتباره من خصوصية طائفة معينة. كما يحث على ضرورة تدوينه بفروقه اللفظية وآلاته الموسيقية حتى يبقى مميزا ،لان الهنات العروضية والاختلالات اللغوية المصاحبة له هي التي تعبر عن الخصائص الاجتماعية والتاريخية للطبقة التي تمارسه.
بين الخصوصية التاريخية والمستقبل
دعوات الحفاظ على المديح بخصائصه اللفظية المختلة ومحاولة حصره في فئة معينة تلقى رفضا قويا من لدن بعض المهتمين بهذا الفن، فهؤلاء يعتبرونه جزءا من الفلكلور العام للمجتمع الموريتاني من حيث الايقاع والمقامات وإن كان هناك اختلاف في بعده الديني والتاريخي .
ويقول الدده محمد الامين السالك الأديب والناقد الفني " إن الاختلالات اللفظية والأخطاء اللغوية التي تميز المديح النبوي الشعبي ليست هي الأصل وإنما جاءت نتيجة لتاريخ طويل من التصحيف على مستوى اللفظ والمعنى ،بل وحتى على مستوى التاريخ والعقيدة، وبالتالي فإن نصوصه المختلة أشبه بنصوص شعر مختل. ولا يلزم غض الطرف عنها تحت ذريعة الحفاظ على الخصوصية"
ونفى الدده محمد الامين السالك ان يكون المديح الشعبي مقتصرا على فئة الحراطين مؤكدا أن "جميع الفئات الشعبية تشترك في مدح وحب وتمجيد النبي محمد صلى الله عيه وسلم ،والمديح الشعبي جزء من ثقافة مجتمع (البيضان). وإذا كان ثمة ما يميز التراث الفني لفئة الحراطين فهو اللون الموسيقى المعروف ب"بنجه benjé،وهو نمط فنى يضم ايقاعا غير منطوق يسمى (همبه hembé) وهذا لم يعد موجودا اليوم .
وأضاف الناقد الفنى أن المديح الشعبي الموجود اليوم يتقاطع مع الموسيقى التقليدية في نفس البحور، غير أن الفرق يكمن في الآلات المستخدمة، كما أن بعض النصوص المستخدمة في المديح الشعبي مجهولة المصدر وتختلط معها الملاحم الدينية الاسلامية.
وكغيره من المهتمين بالتراث الفلكلوري يطالب الدده محمد الامين السالك بمتابعة التجارب الانتاجية التي طورت المديح النبوي في قالب فنى و جماهيري، معتبرا أن ذلك كفيل باستقطاب الأجيال القادمة، حيث إنه فن قابل للتطور والاستمرار.
الاهتمام الاعلامي المتزايد بفن المديح الشعبي في موريتانيا وما بات يثيره من اهتمام لدى الباحثين الأكاديميين ساهم في تغيير صورة المادح الشعبي الذي يعاني كثيرا ما من الأمية والفقر المدقع ، ويعبر أغلب المداحين عن أملهم في أن يساهم هذا التطور في تحسين وضعهم المادي، كما يصرح المادح أحمد ولد سليمان.
الذاكرة الشعبية
وفي حديثه مع DW يقول ولد سليمان "رغم أننى أمارس المديح الشعبي منذ اربعين سنة فإننى لم اعتبره مصدرا للدخل، فأنا أعيش منذ سنوات من موردي كحمال في ميناء نواكشوط، ولم تكن المسابقات والمهرجانات التي تقام هنا وهناك للمديح الشعبي مصدر دخل دائم، غير أنها أعطتنا دفعا معنويا وقيمة اعتبارية داخل المجتمع، كما أتاحت لنا فرصة تصحيح أخطائنا، ورغم كثرة عددنا فإننا لا ننخرط في تنظيمات أو رابطات، كما إننا لا نحصل على دعم من أي جهة حكومية".
وحول تعامله مع النصوص المديحية وضبطها يضيف قائلا: "كنت حريصا منذ الصغر على حضور مجالس المديح وأعتمد على ذاكرتى في حفظ كل نص أسمعه ، وقد مكنني ذلك من حفظ مئات النصوص رغم أننى لم اتعلم القراءة والكتابة"