العمل بين "كسب الرزق" و"تحقيق الذات"
٢١ ديسمبر ٢٠٠٩هل تعمل لتعيش أم تعيش لتعمل؟
سؤال قديم، ولكنه يواجه كل فرد من جديد. إذا كان العمل في حالته المثالية يعني إعطاء الحياة معنى كما يعني تحقيق الذات والحصول على اعتراف الآخرين وتقديرهم، فإن الواقع يبين أن الملايين يعملون لكي يحصلوا على قوت يومهم ولا يتضوروا جوعاً.
حول هذا السؤال يُقام حالياً معرض في مدينة بون بعنوان "المهم هو وجود فرصة عمل". المعرض يتضمن شهادات 50 "شاهداً على العصر" تحدثوا بالصوت والصورة عما عايشوه من تغيرات وتحولات أو صدمات خلال حياتهم المهنية. هناك مهن اختفت تماماً من الوجود، مثل مهنة صف الحروف الرصاصية التي قضت عليها تماماً الطباعة بالكمبيوتر، وهناك مهن تغيرت طبيعتها تماماً، فمن يذهب اليوم إلى مزرعة ألمانية حديثة، سيتعجب من كثرة الآلات وقلة الفلاحين؛ إذ إن آلة الحصاد تنهض اليوم بما كان يفعله في الماضي 80 شخصاً. الصور المعروضة تثير التأمل وتطرح أسئلة عديدة: هل يجلب التقدم البطالة؟ هل يعطي العمل للحياة معنى أم أنه مجرد وسيلة لكسب الرزق؟ وكيف ستبدو صورة المستقبل؟
العولمة والبطالة
يرى زائر المعرض صورة لمركز بريدي ألماني في الخمسينات حيث كان فرز الرسائل يتم يدوياً. نرى عشرات العاملات والعاملين يقفون أمام صناديق صغيرة يضعون فيها الرسائل بعد فرزها حسب الوجهة التي تقصدها. واليوم؟ يكفي عامل واحد أو عاملة واحدة تقف أمام آلة تقوم بفصل الرسائل آليا بعد قراءة الرقم البريدي إليكترونياً. هناك صورة أخرى تثير التأمل لأحد مصانع الحديد والصلب في منطقة الرور، القلب الصناعي في ألمانيا سابقاً. إذا ذهب أحد إلى مدينة أوبرهاوزن ليبحث عن المصنع الموجود في الصورة فلن يجده، بل سيجد مكانه متنزهاً ضخماً ومحلات تسوق ونوادي رياضية. العولمة تركت آثارها هنا أيضاً. وهو ما ينطبق على قطاع صناعي بأكمله، هو قطاع النسيج الذي كان منتعشاً ورائجاً في ألمانيا، قبل أن يُخلي الساحة للنسيج الآسيوي الأرخص.
أين ذهب كل هؤلاء العاملين؟ هل أصبحوا عاطلين عن العمل؟ ربما. وربما أيضاً وجدوا عملاً آخر في مجالات جديدة مثل مجال المعلوماتية أو مجال الخدمات. المعرض يوضح أن للعولمة فوائدها أيضاً، وأنها قد تخلق فرص عمل جديدة، وهو ما يراه الزائر في لوحة توضيحية تبين أن عدد الدول المشاركة في تصنيع تليفون محمول واحد تبلغ خمس دول موزعة على أوروبا وآسيا وأفريقيا.
"عند كتابة عقد التوظيف يوقع العامل على استقالته أيضاً"
لقد شهدت سوق العمل الألماني تحولاً أساسياً خلال العقود الماضية، من مجال التصنيع إلى مجال الخدمات. هذا هو الملمح الأساسي كما يقول بيتر هوفمان، أحد منظمي المعرض في مدينة بون. هذا التحول ينطبق كذلك على مصر مثلما يؤكد الدكتور حسنين كشك، الباحث في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة، ويضيف د. كشك "لقد تزايد عدد العاملين في قطاع الخدمات تزايداً كبيراً على حساب الإنتاج الصناعي الذي تقلص وتدهور."
تحول آخر يرصده الدكتور حسنين كشك هو تغير نظرة الدولة المصرية نفسها للعمل. ففي السنوات الماضية كان العاملون يتمتعون ببعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أما اليوم فإن العمل بعقود مؤقتة هو القاعدة. وهذه العقود تتيح لرب العمل أن يستغني بسهولة عن العاملين لديه، أو حسب قول د. كشك "العامل يوقع على استقالته عند توقيعه عقد التوظيف، إذ أنه يجبر على توقيع ما يسمى بـ"استمارة 6" التي تسمح لرب العمل أن يسرح العاملين لديه وقتما شاء."
حب العمل أم إدمانه؟
العمل ليس فقط وسيلة لكسب الرزق. إنه يعطي حياة الإنسان معنى مثلما يؤكد عديد من الألمان الذين يستمع زائر المعرض إلى شهاداتهم ويشاهدها. يسمع الزائر إحدى الفلاحات تقول "حياة بلا عمل؟ مستحيل. إذا لم يعمل الإنسان يذبل ويموت." أما أحد التلاميذ فيقول "على الإنسان دائماً أن يعمل شيئاً، وإلا أصابه العته." هذا ما يؤكده أيضاً مدير تخطيط سابق، إذ يقول "الحياة بلا عمل لا معنى لها."
حب الألمان للعمل وتفانيهم فيه جعل عديدين في أوروبا والعالم ينظرون إلى الشعب الألماني باعتباره شعباً مجتهداً إن لم نقل مدمناً على العمل. ربما كانت هذه الصورة صحيحة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث تحتم على الناجين من الحرب أن يزيلوا الأنقاض ويعيدوا بناء ما دمرته الحرب. كان العمل وإعادة البناء في سنوات الخمسينات هما الوسيلة الوحيدة لاستعادة الكرامة المهدورة في حقبة النازية. جزء كبير من الألمان كان يخجل من جرائم النازية البشعة ومن انسياق الملايين وراء قائدهم، "الفوهرر" هتلر، انسياقاً أعمى، فلما انتهت الحرب وانكشفت فظائع النظام الهتلري، أصيب عديدون بالصدمة واجتاحهم شعور عميق بالخجل. وجد كثيرون في العمل ملاذاً. وهذا الحب للعمل هو الذي قادهم إلى الرخاء وإلى "المعجزة الاقتصادية". الوجه الآخر للمعجزة الاقتصادية كان الإفراط في العمل بل وإدمانه.
ترف "تحقيق الذات"
ولكن، هل ما زال الألمان "مدمنين" على العمل كما هو شائع؟ هل هم ماكينات لا تعرف الكلل أو الملل؟ عن هذا السؤال يجيب بيتر هوفمان قائلاً "هذا كليشيه. وهو لم يكن صحيحاً في الماضي أيضاً." وبالفعل، فإن نظرة أدق إلى حياة الألمان الآن والمقارنة بين ساعات عمل الألمان والجوار الأوروبي تبين مدى نمطية تلك الصورة وعدم صحتها. في عام 1830 كان الألماني يعمل نحو 80 ساعة في الأسبوع، أما في عام 1961 فقد أصبح يعمل نحو 44 ساعة في الأسبوع، أي أقل مما يعمل الإيطالي والفرنسي، رغم أن الصورة النمطية تقول إن الإيطالي تحديداً يعشق الكسل والاسترخاء والاستماع بالحياة.
أين العالم العربي من كل ذلك؟ كيف هو الوضع في مصر؟ على هذا السؤال يجيب الدكتور كشك قائلاً إن معظم العاملين في مصر يعتبرون فكرة "تحقيق الذات من خلال العمل" فكرة أقرب إلى الترف والرفاهية. إن معظم المصريين – يضيف د. كشك – يعملون في وظيفة ثانية وثالثة بجانب الوظيفة الأساسية، وذلك حتى يوفروا لقمة العيش وينهضوا بالاحتياجات الرئيسية للعائلة. هذا يعني مزيداً من ساعات العمل للرجال والنساء، بل وحتى الأطفال."
نظرة إلى المستقبل
هذه التحولات لا تقتصر على الدول النامية فحسب. كان الألماني في السبعينات يتحدث عن "تحقيق الذات" عبر العمل، غير أن الأزمة الاقتصادية التي أنهت عصر "التشغيل الكامل" أجبرته على التخلي عن مطالبه القصوى والاكتفاء باقتناص فرصة عمل، حتى وإن كانت دون طموحه. واليوم، فإن سوق العمل يتطلب أن يبدي العامل مرونة أكبر، سواء فيما يتعلق بأوقات العمل أو بمكانه. المستقبل غير آمن لمَن يبحث عن فرصة عمل تقليدية. المستقبل في يد الشخص الذي يستطيع أن يواجه تحديات العولمة.
الكاتب: سمير جريس
مراجعة: طارق أنكاي