العراق بين الاستراتيجيات المجهولة والواقع المؤلم
١٤ نوفمبر ٢٠٠٦تفاقمت الاوضاع اليوم في العراق بشكل منقطع النظير. فقد أوردت وكالات الأنباء أن مسلحين عراقيين يرتدون زي الشرطة العراقية قاموا باختطاف عشرات الرجال من مبنى وزارة التعليم العالي بوسط بغداد اليوم الثلاثاء واقتادوهم بعيدا في اطار ما قد تكون أكبر عملية خطف جماعي شهدتها المدينة. وقال شاهد عراقي يعمل بمبنى وزارة التعليم العالي لكنه كان وقت الغارة خارج المبنى انه عاد ليرى رجال الشرطة يراقبون ما يحدث حين كان المسلحون يفحصون بطاقات الهوية لفصل السنة عن الشيعة ثم اقتادوا السنة وذهبوا. وأكد مسؤولون بارزون يحرصون عادة على التهوين من التوترات الطائفية على ان رجالا من الطائفتين اختطفوا. وقال عبد ذياب العجيلي وزير التعليم العالي وهو عضو في حزب سني عربي مشارك في الحكومة لمحطة العراقية التلفزيونية الحكومية "ما حدث هو اختراق امني كبير." مشيرا الى انهم اختطفوا أكثر من مئة موظف وزائر. وقال ان المسلحين اتجهوا شرقا نحو شرق بغداد الذي يهيمن عليه الشيعة وتبعتهم وحدة من الشرطة قالت فيما بعد انها فقدت أثرهم.
هذه الحادثة التي جرت بهذا الحجم في وضح النهار تشير الى هشاشة الوضع الأمني في بلاد الرافدين. فرغم مرور ثلاث سنوات ونيف على الوجود الأمريكي ـ البريطاني في العراق، الا ان الوضع في هذا البلد يزداد تعقيدا والحالة الأمنية تدهور بشكل كارثي ودراماتيكي. من هنا تجد كل من الحكومتين الأمريكية والبريطانية نفسيهما متورطين بشكل متزايد في "مستنقع العراق" الذي اصبح البقاء فيه ورطة والخروج منه معضلة. ومع تصاعد وتيرة أعمال العنف واشتداد ضراوته في العراق وتراجع التأييد الشعبي لسياسة بوش في هذا البلد بعد تزايد الخسائر الأمريكية وسط ضغوط داخلية للانسحاب، لاسيما من قبل الجمهوريين بعد الضربة القاصمة التي تلقاها حزب بوش (الحزب الجمهوري) في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بات حتميا على إدارة بوش وبطبيعة الحال حكومة توني بلير البحث عن مخرج من هذا الوضع في ظل هذه المعطيات الجديدة. من هنا اخذ الحديث يدور مؤخرا عن ضرورة اعتماد "استراتيجية جديدة" في العراق يروج لها حاليا كل من جورج دبيلو بوش و توني بلير اللذان يشعران بقلق شديد إزاء تدهور الوضع في العراق وانعكاساته الخطيرة على سياستهما الداخلية.
إستراتيجية جديدة.......
الحديث حول "إستراتيجية جديدة" في العراق ليس بجديد. فكل مرة يخرج الرئيس الأمريكي ليعلن عن "إستراتيجية جديدة لهزيمة الإرهاب" في العراق. لكن عندما يتمعن المرء فيما يقوله بوش، فانه لن يجد سوى ما يمكن تسميته "تكتيك امني" يفشل قبل ان يدخل حيز التنفيذ. ولعل ما كشف عنه حتى الآن في "الإستراتيجية الجديدة" لا يعدو أكثر من مجرد ايكال مزيد من المهام الأمنية لقوات الأمن العراقية التي تم تدريبها من قبل القوات الأمريكية. ولعل هذا الأمر لا يبدو أكثر من مجرد محاولة لتقليل عدد القتلى في صفوف الجيش الأمريكي وبالتالي امتصاص جزء من غضب الرأي العام الأمريكي. ولا تختلف دعوة رئيس الوزراء البريطاني إلى "تغيير الاستراتيجية" في العراق في مضمونها كثيرا عن مضمون الدعوة الأمريكية وإن كان بلير قد طالب بأن تكون الإستراتيجية الجديدة في إطار "استراتيجية شاملة في الشرق الأوسط"، مطالبا بـ"تفويض مزيد من السلطات الى القادة العراقيين" من خلال "تعزيز التدريب والتجهيز والقيادة والسيطرة لدى الجيش العراقي".
........أم تكتيك للهروب إلى الأمام؟
من الناحية العملية فإن الإدارة الأمريكية تعرف جيدا، وسبق ان أعلنت عن ذلك صراحة، بأن نسبة كبيرة من قوات الأمن العراقية التي تدربت على أيدي الأمريكان هي نفسها مخترقة من قبل الميليشيات المسلحة التي تتبع هذا الطرف أو ذاك. كما انه ليس من المتوقع ان يقبل هؤلاء بأن يكونوا في الصفوف الأمامية كدروع بشرية لحماية القوات الأمريكية. ملخص القول أن "الاستراتيجية الأمريكية الجديدة" تبدو حتى الآن ليست أكثر من مجرد خطة أمنية مصغرة الغرض منها الهروب إلى الأمام بغرض كسب الوقت. وهذه الخطة/ الإستراتيجية تذكرنا بـما عٌرف بـ"الخطة الأمنية الشاملة" التي أعلنتها حكومة المالكي عقب تسلمها مهامها والتي قيل عنها حينها بأنها الأكبر من نوعها، والتي فشلت كما دلت وتدل الأحداث على ذلك. ولعل اكبر دليل على ذلك هو حالة الانفلات الأمني الواسع وتفاقم حدة الوضع وتلك العمليات التي يذهب ضحيتها العشرات يوميا. ففي يومنا هذا مثلا أعلن ـ حتى منتصف ظهر اليوم ـ عن نحو 40 شخصا وجرح العشرات في حوادث متفرقة في العراق.
بوش وبلير يرفضان إشراك سوريا وطهران
وفي الوقت الذي كانت قد سادت فيه التكهنات بأن تطلب الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، في إطار الإستراتيجية الجديدة، من كل ايران وسوريا المساهمة في إحلال السلام والاستقرار في العراق، بدد كل من جورج دبليو بوش وتوني بلير يوم أمس الاثنين وفي وقت واحد تقريبا هذه التكهنات برفض الحوار المباشر مع كل من طهران ودمشق. تجدر الإشارة هنا إلى ان إحدى أهم التوصيات التي من المتوقع ان تقدمها اللجنة المختصة بالعراق، التي شكلت بمبادرة من الكونغرس برئاسة وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر بغرض تقديم تقويم "واقعي وصريح" للوضع في العراق، هي استئناف الحوار مع ايران وسوريا واشراكهما في عملية إعادة الاستقرار في العراق. في هذا السياق يعتقد البروفسور غونتر ماير، رئيس مركز بحوث العالم العربي في جامعة ماينتس بأن لجنة بيكر بتوصيتها بالتعامل مع سوريا وايران تقدم لإدارة بوش "حلا من الحلول السيئة المتبقية" لإنقاذها من الهزيمة وحفظ ما تبقى من ماء الوجه. وأشار ماير في مقابلة مع موقعنا الى ضرورة إشراك سوريا وايران لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العراق الذي يعيش حاليا في "حالة حرب أهلية مصغرة". واضاف بأن كل الإستراتيجيات القديمة في العراق فشلت، وهو لا يعول كثيرا على هذه الإستراتيجية الجديدة التي لم تخرج بعد الى العلن ولا يعرف ما هو مضمونها. واعتبر ماير بأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق في الظرف الحالي سيكون أسواء الحلول.