"الجميلة أتت" من تل العمارنة، ثم استقرت في برلين
٢٠ أبريل ٢٠٠٧لا نبالغ إذا قلنا إن علم المصريات علم غير مصري. نظرة على اكتشاف الآثار المصرية تثبت لنا أنه علم "أجنبي". وكأن مصر كانت بحاجة إلى عين غريبة تكتشف جمال وروعة ومدى تقدم الحضارة المصرية القديمة. علم المصريات علم "كولونيالي" بامتياز، ولدَ على يد العلماء الذين اصطحبهم نابليون في حملته على مصر (1798) والذين قاموا بأول مسح للآثار المصرية في موسوعتهم الشهيرة "وصف مصر". بعدها اكتشف جنود الحملة صدفةً حجراً بازلتياً في مدينة رشيد بدلتا مصر، فكان ذلك حجر الأساس في علم المصريات، وعن طريقه تمكن الباحث الفرنسي جان فرانسوا شامبليون من فك رموز الخط الهيروغليفي، فاتحاً بذلك الباب لفهم أسرار هذه الحضارة.
علماء ولصوص
يدين علم المصريات بفضل عظيم إذن لعلماء وباحثين أجانب أفنوا حياتهم في فك طلاسم هذه الحضارة القديمة التي كادت تندثر. شامبليون أعظم مثال على ذلك، كما لا ينسى المرء هوارد كارتر مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، وقبل الجميع العالم الفرنسي أوغست مارييت الذي أسس المتحف المصري في القاهرة مطلع القرن العشرين صيانةً للآثار المصرية، وخاض حرباً ضاريةً مع لصوص الآثار، وأيضا مع الحاكم الجاهل (الخديو إسماعيل) الذي كان يهدي كنوز الآثار المصرية لعشيقاته وأصدقائه مثلما يهدي المرء الورود. هناك أيضاً عالم الآثار الألماني كارل ريشارد لبسيوس الذي عمل على تسجيل الآثار بدقة بروسية في رحلة شهيرة قام بها إلى النوبة.
لكن اكتشاف الآثار المصرية كان أيضاً تاريخاً من السرقة والنهب والتهريب والاتجار المشروع وغير المشروع. وأشهر هؤلاء اللصوص هو الإيطالي بلزوني. الآثار المصرية المُباعة – من قبل بلزوني وأمثاله - تملأ قاعات المتاحف في لندن (حيث يرقد حجر رشيد بعد تهريبه من مصر، وكذلك ذقن تمثال أبي الهول الشهير)، وباريس وبرلين ونيويورك على سبيل المثال. بعض هذه الآثار خرج بطريقة شرعية من مصر (الواقعة آنذاك تحت الاحتلال البريطاني)، وكثير منها خرج عبر طرق مريبة أو غير مشروعة.
نفرتيتي في برلين
وماذا عن رأس نفرتيتي الشهيرة؟ كيف جاء إلى برلين؟ هل نهباً أم شرعاً؟ كيف أصبحت زوجة الملك إخناتون "العائش في الحقيقة"، "أقدم مواطنة في برلين"؟ كان يوم السادس من ديسمبر من عام 1912 يوما مشهودا في عمر المنقّب الألماني لودفيغ بورشَرت Ludwig Borchardt الذي حالفه الحظ خلال حفرياته في تل العمارنة – عاصمة مصر في عهد إخناتون – واكتشف في ذلك اليوم الرأس الذي سحره، فكتب في دفتر يومياته يقول: "التمثال رائع ولا يمكن وصفه. لا بد من رؤيته." بعد ذلك تم اقتسام الآثار المكتشفَة وكانت الملكة الجميلة من نصيب برلين.
إلى هنا من الممكن أن نقول إن الوضع القانوني واضح وبيّن، وأن من حق برلين أن تحتفظ بـ"الجميلة التي أتت" – كما يعني اسم نفرتيتي مُتَرجماً – وألا تفرط فيها. لكن الجانب المصري لا يقبل بهذه الرؤية. زاهي حواس، رئيس هيئة الآثار المصرية، يشير إلى أن بورشرت قام بخداع المصريين، وأنه كسا التمثال بالقماش ثم بطبقة من الطمي، وبذلك بدا عديم القيمة، فوضعه وسط صندوق مليء بقطع الفخار القديمة، وهربه إلى برلين. هكذا جاءت "الجميلة" إلى العاصمة البروسية عام 1913. هذه الرؤية المصرية تدعمها فقرات من مذكرات بورشرت، وفيها يتحدث عن لجوئه إلى الحيلة كي لا تفترق الجميلة عنه.
هتلر يقع في غرام نفرتيتي
منذ اكتشاف نفرتيتي والجهود المصرية لم تتوقف عن استعادتها، أو على الأقل استعارتها لعرضها في مصر. ولكن كل هذه الجهود باءت بالفشل. مرة واحدة كاد رأس الملكة يطل على عشاقها في مصر، والغريب أن ذلك حدث تحديداً في عهد واحد من أكبر سرّاق الفن في العالم، ونعني النازي هيرمان غورينغ الذي لم يدع فرصة خلال سنوات النازية دون أن ينهب كنوز أوروبا الفنية ويأتي بها إلى ألمانيا. استجاب غورينغ للطلب المصري عام 1933 عندما كان رئيساً للوزراء في بروسيا، غير أن "الفوهرر" هتلر اعترض، لأنه أراد أن تكون الملكة الجميلة درةَ متحفة في العاصمة الجديدة "غرمانيا" التي ينوي تأسيسها.
بين القاهرة وبرلين
النزاع بين القاهرة وبرلين حول نفرتيتي لم يصل أبدا إلى حد الأزمة. عديد من المصريين يرون أن الملكة مُصانة في برلين ومعروضة على نحو مشرف، كثيرون يكررون كلمة الرئيس حسني مبارك الذي يعتبر زوجة إخناتون خير سفيرة لمصر في الخارج. النزاع الآن يدور حول استعارة الرأس وعرضها مؤقتا في القاهرة. ديتريش فيلدونغ، مدير المتحف المصري في برلين، يعترض على الإعارة، أولاً: لأسباب تتعلق بسلامة الرأس واحتمال تعرضه للأذى، وثانياً: لأنه لا يضمن عودة الرأس أصلاً. يقول فيلدونغ: لقد تقدم العمر بالسيدة ولم تعد قادرة على تحمل متاعب السفر. ولكن، ألا يتسابق مدراء المتاحف في ألمانيا وفي العالم على استعارة الآثار المصرية وعرضها لديهم، حتى لو كانت عتيقة ولا تتحمل مشقة السفر؟ أليس هذا – أيضاً – مكيالاً بمكيالين؟ لهذا يهدد زاهي حواس بعدم إعارة الآثار المصرية مستقبلاً إلى برلين، وبإعادة النظر في التنقيب الألماني في مصر.
عديد من المسؤولين المصرين يؤكدون أنهم لا يريدون استعادة نفرتيتي إلى الأبد. هذا مطلب غير واقعي. هناك حلول وسط كثيرة، وسبل عديدة للتعويض. إن حل "الأزمة" بسيط، ويكمن في إعارة نفرتيتي لوقت محدد. وإذا كان الجانب الألماني يخشى عدم عودة "أقدم مواطنة برلينية"، فهناك من الوسائل القانونية والدبلوماسية العديدة ما يضمن عودة نفرتيتي إلى موطنها الثاني برلين حيث سيُخصص للملكة غرفة لائقة في المتحف الجديد الذي سيفتتح عام 2009.