اقتصاد ألمانيا وتحديات تضخمية نادرة تضعه على مفترق طرق
١٠ مايو ٢٠٢٢يستمر ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم في ألمانيا بنسب لم تعرفها خلال العقود الأربعة الماضية. وحسب مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني وصل معدل التضخم في آذار/ مارس الماضي إلى 7,3 بالمائة. وارتفعت أسعار المسهلك في شهر أبريل/ نيسان الفائت، والتي تشمل احتساب معدل أسعار 650 سلعة، بنسبة قاربت 7,5 بالمائة مقارنة بمستواها في نفس الشهر من العام الماضي. وإذا ما نظرنا إلى أسعار مواد البناء والسلع الغذائية كالحليب والخضار وزيوت الطعام النباتية والخبز والحديد والخشب فإن الارتفاع أعلى من ذلك بأضعاف. وهو ما يدعو المزيد من المحليين وصناع القرار إلى التحذير من تبعاته، لاسيما على المستوى المعيشي للذين يحصلون على دعم اجتماعي (هارتس4) بحدود 400 يورو شهريا ولأصحاب الدخل المحدود الذين يكسبون ما بين 1000 إلى 1500 يورو شهريا.
نسبة تضخم بأضعاف المسموح به
بدأ التضخم وارتفاع الأسعار بتجاوز الحدود التي تعهد البنك المركزي الأوروبي بالحفاظ على نسبتها بحدود 2 بالمائة وما دون خلال جائحة كورونا التي أدت إلى حدوث أضطرابات في سلاسل التوريد وارتفاع أسعار النقل والتأمين. غير أن الحرب في أوكرانيا أججت نيرانها بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز التي تأتي بالدرجة الأولى من روسيا وأسعار مواد غذائية كالقمح وزيوت الطعام النباتية التي تُعد أوكرانيا وروسيا أكبر مصدرين لها في العالم. فخلال الشهرين الماضيين على سبيل المثال ارتفع سعر الديزل بنسبة وصلت إلى نحو 30 بالمائة، في حين ارتفع سعر البنزين بنسبة وصلت إلى أكثر من 15 بالمائة. ومع استمرار الحربتذهب جميع التوقعات إلى مزيد من الآرتفاع قبل حلول الشتاء القادم، حيث يزداد الطلب على الطاقة. وعلى هذا الأساس دعا وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك في أكثر من مناسبة المستهلكين والشركات إلى الاستعداد لمزيد من الارتفاع في الأسعار؛ مضيفا بأن حكومته "أطلقت برامج مساعدات وقروض مختلفة"، غير أنها "لا تستطيع بمفردها مواجهة التبعات التي ينبغي على الاقتصاد القومي ككل تحملها".
تراجع طلبيات الصناعة ناقوس خطر!
ويبدو أن هذه التبعات ليست قاسية على المستهليكن وحسب، بل أيضا على الشركات الألمانية. فهذه الأخيرة تزداد معاناتها بسبب ارتفاع أسعار مصادر الطاقة والمواد الأولية الأخرى من جهة، ونقصها من جهة أخرى لأسباب منها قلة المنتجين والعارضين. ويأتي القسم الأكبر من هذه السلع والمواد والمصادر من روسيا والصين. ويعتمد الاقتصاد الألماني على مصادر الطاقة الروسية بنسبة تزيد على 50 بالمائة. ومع ارتفاع الأسعار تزداد تكاليف الإنتاج، مما ينذر بتراجع الطلب على المنتجات الألمانية التي تعتمد بكثافة على مواد مستوردة. ونخص بالذكر منها هنا صناعة السيارات والآلات الثقيلة التي تشكل عماد الصادرات الألمانية. في هذا السياق أفاد مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني أن الطلبيات في قطاع الصناعة تراجعت خلال شهر أبريل/ نيسان الماضي بنسبة حوالي 5 بالمائة.وبلغت نسبة التراجع من خارج منطقة اليوروعلى صعيد الآلات والأنظمة التقنية والسلع الاستثمارية أكثر من 13 بالمائة. ورغم أن ارتفاع الطلبيات على هذه السلع من منطقة اليورو بنسبة حوالي 6 بالمائة خفف من وطأة التراجع العالمي لها، فإن نسبة كهذه تقرع ناقوس الخطر على مستقبل صناعة يعتمد ازدهارها منذ عقود على التصدير إلى مختلف أنحاد العالم.
الشركات لا تستطيع الحفاظ على الأسعار الحالية
حتى الآن لا تزال الكثير من الشركات الألمانية قادرة على إنتاج سلعها بتكاليف لا تتضمن الارتفاع الجنوني الأخير في أسعار مصادر الطاقة والمواد الأولية في السوق العالمية إلى مستويات زادت على الضعف في قسم كبير منها. ويعود الفضل في ذلك إلى أن هذه الشركات أبرمت قبل كورونا والحرب في أوكرانيا عقود شراء تمتد إلى الخريف القادم أو نهاية السنة الجارية. غير أن استمرار ارتفاع الأسعار ونهاية فترة العقود سيضطرها مع حلول الصيف الجاري إلى طلب موادها اللازمة للإنتاج بالأسعار الحالية.
وهو ما يعني ارتفاع تكاليف الإنتاج والبيع بشكل يضعف قدرة المنتج الألماني على المنافسة أمام المنتجات الصينية والآسيوية الأخرى. أما الشركات الأخرى التي ليس لديها احتياطات مواد أولية أو عقود شراء طويلة الأجل، فإنها مضطرة إلى زيادة أسعار منتجاتها خلال الأشهر الثلاثة القادمة. ففي استقصاء لمعهدايفوللبحوث الاقتصادية تبين أن 51 بالمائة من الشركات تنوي القيام بهذه الزيادة قبل حلول الصيف القادم. وفي حال حصل حظر على واردات الغاز والنفط الروسيين إلى ألمانيا، فإن المشكلة ستكون أصعب للصناعة الألمانية التي تعتمد بشكل أساسي على الغاز الروسي. وبهذا الحظر ستكون هناك فرصة للصين لاستيراد الغاز من روسيا بأسعار مناسبة وكسب المزيد من المنافسة في الأسواق العالمية على حساب ألمانيا. وفي حال حصل الحظر فإن شركات ألمانية كثيرة وخاصة الكيميائية والثقيلة منها ستضطر إلى تسريح آلاف العاملين لديها أو إلى الإغلاق.
هل تضمن العولمة المنظمة استمرار الازدهار الألماني؟
ركزت ألمانيا في نموذج نموها الاقتصادي الذي حقق لعقود نجاحات باهرة، على التخصص في منتجات معينة عالية التقنية تحت ظروف ما يسمى العولمة الليبرالية. وقد وفرت لها هذه الظروف المواد الأولية وموارد الطاقة ومدخلات الإنتاج الأخرى من الخارج وخاصة من الصين وروسيا وإلى حد ما من كوريا الجنوبية وتايوان بأسعار منخفضة. غير أن تغير الأوضاع العالمية والجيوسياسية في ظل فترة حكم دونالد ترامب وجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، ظهرت نقاط ضعف هذه النموذج من خلال الإجراءات الحمائية ونقص المواد اللازمة للإنتاجبسبب انقطاع سلاسل التوريد وارتفاع الأسعار. ويدل على ذلك نقص الأقنعة والأدوية خلال الجائحة واستمرار نقص الشرائح الإلكترونية. كما أن الارتهان لمورد واحد أو لبضعة موردين كما هو عليه الحال بالنسبة لمصادر الطاقة التي تأتي بنسبة تزيد على 50 بالمائة من روسيا والشرائح الإلكترونية التي تأتي في غالبيتها من كوريا الجنوبية وتايوان يعرض الصناعة الألمانية للابتزار.
على ضوء ذلك تزداد في ألمانيا أيضا الدعوات إلى التخلي عن التنمية في ظل عولمة ليبرالية منفتحة لصالح "عولمة منظمة"، بمعنى مقوننة على حد تعبير الكاتب الصحفي توماس فريكيه في مقال له على موقع شبيغل تحت عنوان "وداعا حلم المعجزة الاقتصادية الألمانية". وما يعنيه ذلك حسب الكاتب وكتاب آخرين،ن هو العمل على توفير المواد الأولية والسلع الاستراتيجية عن طريق الإنتاج المحلي والأوروبي قدر الإمكان، وتقليص الاعتماد على مورد واحد في توفيرها إلى نسب لا تتجاوز الثلث في أحسن الأحوال. ومن الواضح أن هدفا كهذا ليس من السهل الوصول إليه في بلد فقير بالمواد الأولية ولديه صناعات كيمائية وثقيلة تحتاج إلى مصادر طاقة تقليدية بشراهة قل نظيرها.
ابراهيم محمد