الاعتصام بميدان التحرير: موسم حصاد للغلابة وكساد للتجار
١٠ يونيو ٢٠١٢لا ينعم ميدان التحرير بالهدوء بضعة أسابيع قبل أن يعود لحالة الفوضى العارمة، بما يصاحبها من إغلاق للشوارع الرئيسية، وانسحاب تلقائي لرجال المرور، في مداخل ومخارج تلك المنطقة الحيوية في قلب العاصمة. وللبسطاء من باعة جائلين وتجار الأرصفة والبضائع "المضروبة"، هو موسم حصاد وانتعاش، يغيب فيه الأمن، فيخرجون من الشوارع الجانبية لافتراش قارعة الطريق وسط الميدان. يتفننون في تقديم بضاعتهم لـ"زبائن التحرير"، ويبدعون في استنتاج متطلباتهم وفقا لتطورات الحالة السياسية والجوية.
فمع اندلاع العنف والمواجهات الأمنية، تروج تجارة الكمامات الواقية وسوائل معالجة الغاز المسيل للدموع. ومع اشتداد حرارة الصيف، تروج تجارة العصائر والمياه الغازية المثلجة، ومع اشتداد لهيب الشمس، يفرش الباعة الأرصفة بالمظلات والقبعات الواقية.
ترمس وفشار وذرة مشوي.. لزوم المناقشات السياسية في التحرير
ولم يفت بعض الباعة مراعاة كبار السن من المحتجين، فعرض ضمن بضاعته كراسي محمولة وعصي يتكئ عليها المسنون. "أو ربما يستخدمونها لغرض آخر"، قالها أحد المارة بضحكة خبيثة، مداعبا البائع، في إشارة إلى المشاجرات التي كثيرا ما تنشب بين المحتجين. ولأن الاعتصام يمتد على مدار اليوم، لم ينس بعضهم توفير وجبات الغذاء لـ "زبائن" الميدان، والتي تراوحت بين ساندويتشات سجق "مجهولة المصدر" تباع في عربات متهالكة، إلى أطباق الكشري، الوجبة الشعبية الأولى والأوفر للمواطن المصري، مطحونا كان أم ميسور الحال.
أما هذه البائعة الصغيرة ذات الرداء الأزرق فلم يفتها مزاج المواطن المصري في "كوب الشاي اللي يحبس بيه بعد الغذا"، على حد قولها. ولزوم التسالي، لا مانع من بيع الفشار والترمس والذرة المشوي، الذي يعشق المصريون التهامهم، وهم في عز مناقشتهم السياسية، التي لا يخفت لها صوت في الميدان، ليل نهار.
الكل في الميدان.. ثوار و"أنفار باليومية"
وخلافا لهذا الانتعاش، تعد الاعتصامات موسم كساد لأصحاب المحال المشهورة في الميدان. فكلما عاد المعتصمون، وضع أصحاب المحال يدا على قلوبهم، وبالأخرى أسدلوا البوابات الحديدية الخارجية في وضع تأهب للإغلاق، إذا ما لمحوا بوادر خطر. وفي بقعة شهدت أكثر معارك الثورة ضراوة، بين شارع "محمد محمود" والمتحف المصري، تقع شركة "رمسيس"، التي رفض موظفوها ذكر أسمائهم ليتحدثوا بحرية. وقال أحدهم وهو يشير إلى الخيام المنصوبة "زبائننا يخشون الوصول إلينا". وأضاف زميله لموقع DW عربية بالقول: "هؤلاء مجرد أنفار. هناك من يستقدمهم ويدفع لهم أجرة 100 جنيه في الليلة، آكلين، شاربين، نايمين، بهدف إبقاء حالة الفوضى وانعدام الأمن، لذلك لا أمل لي في أن ينصلح الحال، إلا عندما يتوقف هؤلاء عند دفع أجر البلطجية".
موظفو شركة «نيو بارون» المجاورة أيضا يعانون ممن يصفونهم بـ"بلطجية الميدان". ويقول هاني عفيفي، مدير الشركة: "الناس يخشون على حياتهم منهم"، وأشار إلى كاميرا التصوير في يدي محذرا «احترسي وأنت تحملينها، يمكن لأي شخص هنا أن يستوقفك بمطواة، دون أن يستطيع أحد مساعدتك، رغم كل هذا الزحام".
هذا ما يراه أصحاب المحال، فماذا عن الجانب الآخر من الصورة. فمثلما يوجد "الأنفار" و"البلطجية" في ساحة التحرير، يوجد آخرون كهؤلاء الوجوه الثلاثة التي التقتها DW أمام أحد الخيام: رمضان إبراهيم (عاطل) وحامد فضل (ميكانيكي) ومحمود مصطفى (سواق ميكروباص).
مطلب أحد المعتصمين في التحرير: نفسي أتجوز!
الحديث مع هؤلاء في السياسة ومطالب الثوار لم يكن ليبدو منطقيا. فمشكلاتهم أعمق من مهاترات السياسيين، وأبسط من مطالب الثوار. بدأت DW بسؤال فضل (الميكانيكي) عما إذا كان لا يخشى طرده من العمل وهو معتصم، فقال بابتسامة ساخرة "مش خايف أترفد (أُطرد) لأني كده كده باشتغل من غير فلوس".
زميله مصطفى سائق "الميكروباص" تدخل قائلا بمرارة وبلكنة شعبية مميزة: «أنا بقى الحكومة خدت مني الميكروباز"، وبسؤاله عن السبب، قال بتلقائية "كده عافية من غير سبب". ثم أردف قائلا: "ما أنا جيت هنا عشان الظلم اللي بنشوفه حضرتك.. إحنا عايزين عيشة نضيفة.. مرتب حلو.. حكومة متظلمشي". hلتفت لزميله فضل فقال من فوره: "أنا عايز لما أشتغل أخد فلوس، وعاوز شغلانة كويسة، وعاوز لما حد يضحك عليا، ألاقي حكومة ترجعلي حقي". أما إبراهيم (العاطل) فما أن سألته عما يتمنى، حتى قال دون تردد، بنظرة سارحة وابتسامة حالمة: "نفسي أتجوز..".
أميرة محمد
مراجعة: أحمد حسو