ارتفاع سعر الدولار.. نعمة أم نقمة على الاقتصاد العالمي؟
٢٩ سبتمبر ٢٠٢٢شهد العام الجاري مفارقة تاريخية غير مسبوقة تمثلت في تساوي قيمة الدولار الأمريكي مع الجنيه الاسترليني لأول مرة في التاريخ وذلك كنتيجة لارتفاع سعر الدولار.
وقد اقترن انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني مع انخفاض مماثل في قيمة اليورو الذي تساوى تقريبا مع الدولار لأول مرة منذ عشرين عاما جراء انخفاض العملة الأوروبية الموحدة بسبب تزايد المخاوف من حدوث ركود في منطقة اليورو على وقع أزمة الطاقة مع استمرار الحرب في أوكرانيا.
ولم يقتصر الأمر على الجنيه الاسترليني واليورو بعدما تعرضت عملات رئيسية أخرى لانتكاسات، إذ انخفض الين الياباني بنسبة 20 بالمائة تقريبا مقابل الدولار هذا العام ليصل إلى أدنى مستوياته منذ عام 1998، فيما تراجعت عملة الهند "الروبية" إلى مستوى قياسي جديد بعد أن بلغ سعر الروبية الاثنين الماضي (26 أيلول/ سبتمبر) 80 روبية للدولار الواحد للمرة الأولى خاصة مع انسحاب المستثمرين من الأصول الخطرة في الأسواق الناشئة.
وقد كتب جورج سارافيلوس،رئيس أبحاث الصرف الأجنبي في "دويتشه بنك" في مذكرة للعملاء، إن الدولار "يشهد أكبر تجاوز في التقييم منذ ثمانينيات القرن الماضي. وتتراكم في العالم حالة من عدم الارتياح ببطء جراء التقلب الشديد في الوقت الراهن".
أسباب صعود الدولار؟
لكن ما هي أسباب صعود قيمة الدولار؟
من بين الأسباب الرئيسية لارتفاع قيمة الدولار هو السمعة الجيدة التي يحظى بها كملاذ آمن في أوقات الأزمات الاقتصادية. كذلك أجبر ارتفاع نسبة التضخم في منطقة اليورو بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، المصارف المركزية على وضع قيود على الانفاق بالإضافة إلى أن المخاوف من حدوث انكماش دفعت المستثمرين للجوء إلى الأمان النسبي الذي يوفره الدولار، العملة الأقل عرضة نسبيا للمخاطر العالمية التي قد تتعرض لها العملات الأخرى حاليا.
ويعد قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة أيضا من الأسباب الرئيسية لارتفاع قيمة الدولار.
وقد أقدم الاحتياطي الفيدرالي بتشديد سياسته النقدية في محاولة لخفض معدلات التضخم المرتفعة، على عكس ما أقدم عليه البنك المركزي الياباني والبنك المركزي الأوروبي بالحفاظ على أسعار منخفضة للفائدة.
وقد خلق هذا الأمر فجوة كبيرة بين سعر الفائدة في أمريكا من جهة وبين سعرها في منطقة اليورو،الأمر الذي دفع المستثمرين للجوء إلى الدولار من أجل جنى مكاسب أكثر.
وجاء الارتفاع الأخير في قيمة الدولار مقابل الجنيه الاسترليني بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية عن أضخم تخفيضات ضريبية تقدم عليها البلاد منذ 50 عاما، كما تعهد وزير المالية كواسي كوارتنج بالشروع في مزيد من التخفيضات الضريبية. وقد أثار السخاء المالي للحكومة البريطانية المخاوف من قيام بنك إنجلترا برفع سعر الفائدة بشكل كبير.
وفي ذلك، قال سارافيلوس إن التحدي المباشر الذي تواجهه بريطانيا لا يتعلق بمعدلات النمو المنخفضة، وإنما بالصورة السلبية للميزان الخارجي الذي يعتمد على التمويل الأجنبي، مضيفا بأن "الإنفاق المالي الكبير قد يدفع صعود النمو قليلا على المدى القصير، لكن السؤال الأهم: من سيدفع الثمن؟ "
المستهلكون وصعود الدولار
من شان صعود قيمة الدولار أن يلقي بظلاله الثقيلة على الأسر والشركات في القارة الأوروبية، خاصة مع ارتفاع التكاليف. إذ يعني ضعف قيمة اليورو أن الواردات بالدولار ستصبح أكثر تكلفة خاصة عندما يتعلق الأمر بالمواد الخام أو السلع الوسيطة، مما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية في أوروبا. وبالنسبة للسائحين الأوروبيين الذين يسافرون إلى الولايات المتحدة، فإن انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار سيعني إنفاقا أقل.
ومن الناحية النظرية، فإن انخفاض قيمة العملة يعد بالخبر السار للمصدرين والاقتصادات ذات القدرات التصديرية الكبيرة مثل ألمانيا، لأن الصادرات ستكون أرخص من حيث القيمة الدولارية، بيد أن هذه الاحتمالية تضعف في الوقت الحالي بسبب اضطرابات سلاسل التوريد العالمية والعقوبات على روسيا والحرب في أوكرانيا.
أما بالنسبة للهند، فإن ارتفاع قيمة الدولار يثقل كاهل المستهلكين، خاصة وأن الهند تعتمد بشكل كبير على واردات النفط الخام وزيوت الطعام وهي سلع تُدفع بالدولار وباتت أسعارها مرتفعة الآن مع انخفاض قيمة الروبية أمام الدولار.
في المقابل، فإن ارتفاع قيمة الدولار سيصب في صالح المستهلكين والشركات الأمريكية، إذ سيؤدي إلى انخفاض في التكاليف. لأن الواردات باتت أرخص فيما سيتمكن السائحون الأمريكيون من الاتفاق بشكل أكبر في أوروبا، بيد أن الشركات الأمريكية التي تعتمد على النشاط الاقتصادي خارج الولايات المتحدة سوف تتضرر جراء انخفاض قيمة الأرباح التي تجنيها في البلدان الأخرى مع انخفاض قيمة عملات هذه البلدان مقابل الدولار.
تراكم الديون
أما بالنسبة للاقتصادات الناشئة، فإن ارتفاع قيمة الدولار سترافقه مشاكل كبيرة في الدول التي يتعين عليها سداد ديونها الخارجية بالدولار مثل تركيا والأرجنتين وغانا، إذ كلما ارتفعت قيمة الدولار كلما ارتفعت قيمة خدمة الديون الخارجية ومن ثم سدادها.
وفي ذلك، يقول ويليام جاكسون، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في "كابيتال إيكونوميكس"، إن هذا الأمر يتسبب في خلق "بيئة سلبية بشكل عام في الأسواق الناشئة رغم تباين نقاط ضعفها". ويضيف في مذكرة أن الخبر السار "يكمن في أن العديد من الأسواق الناشئة الكبيرة، ديونها بالدولار قليلة نسبيا فضلا عن ضعف تحركات العملات، لكن المخاطر تتركز في دول مثل سريلانكا وغانا والأرجنتين وتركيا".
وبالنسبة للدول التي تعتمد بشكل كبير على الواردات، فإن ارتفاع قيمة الدولار سيثير مخاوف من ارتفاع معدل التضخم فضلا عن أنه سيسفر عن خفض قيمة احتياطيات هذه الدول من الدولار وسينجم عن ذلك في نهاية المطاف ارتفاع في أسعار الواردات.
متى سيتوقف صعود الدولار؟
وإزاء ذلك، يتساءل كثيرون ليس فقط خبراء الاقتصاد، وإنما الملايين حول العالم، متى سيتوقف صعود الدولار؟
وفي إجابته على ذلك، يقول سارافيلوس إن وصول مخاطر التضخم في الولايات المتحدة إلى "الذروة النهائية" من شأنه أن يدفع الفيدرالي الأمريكي إلى إبطاء "دورة التشديد القوية" التي ينتهجها، وهو ما يعد "شرطا ضروريا" لإنهاء ارتفاع الدولار.
ويشدد على ضرورة وجود عوامل أخرى مثل حدوث انفراجة في أزمة الطاقة في أوروبا وتراجع الصين عن استراتيجية "صفر كوفيد" التي لا تزال تعطل سلاسل التوريد العالمية، مضيفا أنه "على أقل تقدير يتعين حدوث بعض من هذه الأمور لإبطاء الارتفاع غير المسبوق في التدفقات صوب الولايات المتحدة باعتبارها الملاذ الآمن، لكننا نخشى من عدم حدوث ذلك".
أشوتوش باندي / م ع