أن أكون صحافية.. ماذا عساني أن أفعل بهذا الخوف؟
٣ مايو ٢٠١٩يُصادف اليوم، الثالث من أيار/ مايو، اليوم العالمي لحرية الصحافة، والذي خصصته منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) للاحتفاء بالمبادئ الأساسية للإعلام، وتقييم حال الصحافة، وتسليط الضوء على الانتهاكات التي تُمارس على الصحافيين، بما في ذلك انتهاك حرية التعبير، بالإضافة إلى التذكير بمن دفعوا ثمن القيام بمهمتهم الصحفية بمهنية، وسُجنوا أو واجهوا الموت.
في تقريرها الأخير، أعلنت مؤسسة "مراسلون بلا حدود" أن هنالك تراجعًا في حرية الصحافة في كل العالم، وكانت قد أشارت إلى أن الدول العربية تقع في آخر القائمة، مع العلم أن تونس تواصل تقدّمها، فحققت هذا العام قفزة ملحوظة ووصلت إلى المركز الـ 72. إلى أنه يبدو، أن مناخ عمل الصحفيين/ات في أماكن كثيرة بالعالم، هو مناخ خوف في ظل تحريض متواصل عليهم/ات.
تحملني الإشارة إلى الخوف، إلى اختلافه بين ظروف وأخرى. في مهنة الكتابة الصحافية، سواء كتابة المقالات أو التقارير أو التحقيقات، وما إلى ذلك، نجد الخوف من الأنظمة السياسية و/أو الخوف من المجتمع/ات، والرقابة التي تُفرض من قبل النظام السياسي والمنظومة المجتمعية على الصحفي/ة، بالإضافة إلى الرقابة الذاتية التي هي نتاج الخوف من القمع.
عندما قررت أن أصبح صحافية، كنت في جيلٍ صغير نسبيًا، ولم يكن بالنسبة لعالم المراهقين/ات شيئًا عاديًا أن يختار أحدنا أن يصبح صحافيًا، في ظلّ موروث اجتماعي يبلغنا في كل فرصة بأن "الصحافة لا تطعم خبزًا"، أي لا يمكنها توفير مصدر دخل. لكن، اليوم وبعد سنوات عديدة من عملي كصحافية، أرى أن شغفي الأوّل كان، وما زال، هو سرد قصص الناس والأمكنة والأحداث، إلخ.. وإيصالها إلى من يقرأ لغتي، والشغف بالمهنة، هو بوصلة أساسية بتحقيقها، لكن، في ظلّ كونها مهنة مليئة بالمخاطر أيضًا، هنالك بعض القصص التي بإمكان سردها أن يسبب خوفًا للكاتب/ة.. ماذا نفعل بهذا الخوف؟ هل نكتب؟ أم لا؟
هنالك من اختار أن يكتب ودفع ثمن ذلك، وهنالك من اختارت أن تكتب ولم يحصل شيئًا مما خافت منه، وهنالك من قرر أن لا يكتب، لأنه يخاف من النتائج، سواء السياسية، المتجسّدة بقوانين تنتهك حرية الصحافة والتعبير، أو الاجتماعية، والخوف شرعي، لأن هنالك مسؤوليات على الصحفي أن يتحملّها وحده. وتاريخيًا، هنالك من وجد له طرق لحماية نفسه، فكتب باسم مستعار، إيمانًا بأن الصوت، القصة، وكل التفاصيل داخلها، يجب أن تصل للقارئ، وهي أهم ممن كتبها، وبالطبع، بإمكان هذا المخرَج أن لا يكون متوفرًا أو كافيًا لحماية الصحفي/ة من أي قمعٍ كان.
وعندما يفكر المرء اليوم في سؤال الخوف، بعد سنوات عديدة من الكتابة الصحافية، أرى أنه رفيق المسيرة، هو حاضر منذ كتابة الكلمة الأولى إلى النشر، وهو متنوع، منه الخوف الرادع ومنه المحفز النابع من المسؤولية تجاه الكلمة والقصة والناس، وتجاه المهنة أيضًا. بدأت مهنتي كصحافية، بالتركيز على الصحافة الثقافية السياسية، التركيز المتواصل حتى يومنا هذا، والمتوسّع أيضًا. بداية، كان التركيز على الثقافة الفلسطينية، حقولها المتنوعة، وكيف تتجسّد الثقافة كمرآة للشعوب، تاريخها وحاضرها، إيمانًا بدور الثقافة في مقاومة طمس الهويّة وفي بقاء الناس وحكاياتهم، وكيف يمكن للصحافة أن تلعب دور سرد القصة، التوثيق والنقد. هنا القلق كان سياسيًا، في سياق قضية الفلسطينيين/ات التاريخية والسياسية، لكنه لم يردعني من الكتابة.
مع انتقالي إلى برلين، توسّع التركيز على الصحافة الثقافية، ليتصل بقضايا وقصص عربية وغير عربية تعيش في المدينة، لكن، هنالك حقل آخر بدأت بممارسته، على غرار تجربتي في "دويتشه فيله"(DWعربية)، وهو الكتابة عن مواضيع تُسمى "بالحساسة" أو عليها "تابو" ما، الاجتماعي خاصّة، ونقد جوانب عديدة فيها. مواضيع متعلقة بالمرأة، العنف ضد النساء، المثلية الجنسية، العبور الجنسي، حق المثليين/ات بتأسيس عائلة، عن المجتمعات المثلية العربية في برلين، عن الجنس، العلاقات العاطفية، الجسد، الجنسانية، حق المرأة بالإنجاب خارج إطار الزواج، وما إلى ذلك..
هنا الخوف يختلف، كأنه يصبح أقرب، الخوف المرتبط أيضًا، شئت أم أبيت، بكوني امرأة، تكتب ضد المنظومات الذكورية، وهذا النقد يهدد هذه المنظومات، لأنه يصطف إلى جانب المرأة والفئات المستضعفة اجتماعيًا وحريّاتها. وهذا الخوف، ليس بالضرورة أقوى أو أقل من الخوف السياسي، إنما هي التجربة التي تعود لخصوصية ظروف الكاتب/ة، وليس تعميمًا على حال الصحافيين/ات.
خلال كتابة المقال، فكرت بعدد كبير من الكاتبات النساء اللاتي يكتبن بأسماء مستعارة، عن مواضيع متعلقة بالجسد وغشاء البكارة مثلًا، نساء اخترن عدم النشر بأسمائهن الحقيقية خوفًا من محيطهن، خاصّة القريب منهن المتجسّد بالعائلة؛ الأب، الأخ والأم أحيانًا، أو من الأحكام التي يمكن للمجتمع أن يُطلقها عليهن، لأنهن الأدرى بكيف تقمع هذه الأحكام حيواتهن وقراراتهن. وهذا خوف، لا يُستاهن بهِ.
مرة أخرى، لا أقلل من خوف أحد ولا أقارن مخاوف الصحافيين/ات ببعضها البعض، لكن في الحديث المستمر والمهم عن قمع الأنظمة لحرية الصحافة والتعبير، من المهم أيضًا الحديث عن القمع الاجتماعي أيضًا، لا على النساء فقط، بالرغم من أن الكاتبات النساء اللاتي اخترن الكتابة عن مواضيع "حساسة"، بإمكانهن التعرض لقمع مضاعف عن الكاتب الرجل، لكن الرقابة المجتمعية قادرة على قمع الرجل الكاتب أيضًا، وقد يضطر البعض إلى أن يكتب بأسماء مستعارة تفاديًا لذلك، بالأخص لو كانت مواضيعه مصنّفة على أنها "تابو"؛ كالجنس والدين.
في هذه الأيام، احتفل بمرور عاميْن على انتقالي إلى برلين، وفي الحديث عن الخوف وحرية التعبير، فإن تجربتي مع الكتابة عن مواضيع "حساسة" اجتماعيًا، مجبولة بتجربة معيشتي في هذه المدينة، فلا يمكنني اليوم أن أفصل الحياة اليومية وما تمنحه لي التجربة، عن الشغف والجرأة بكتابة مواضيع، لا تخصني فقط على مستوى شخصي، بل تلمس العديد ممن حولي أو بعيدين/ات عني جغرافيًا ومن لا أعرفهم/ن. وكلها مساحات للتعلّم.
وتعلمت أيضًا، أن هذا الخوف المشروع، يُعالَج أيضًا بالكتابة، قدر المستطاع، وأن سرد قصص آخرين وأخريات، الكتابة عنهم/ن، نقد أشكال القمع المتنوعة، جميعها أيضًا بمثابة مسار تحرر ذاتي. وكلّي أمل، أن يكون له إضافة إيجابية، أو ببساطة، أن يشعر البعض بأنه ليس وحيدًا. ولذلك، تحية لكل الصحافيين/ات، الذي يمارسون/ات مهنتهم/ن بشغف ومسؤولية وجرأة ومخاطرة، وخوف شرعي.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.