ألمانيا وتركيا - مد وجزر في علاقات شراكة صعبة
٨ نوفمبر ٢٠١٦لا تكاد تهدأ أزمة بين أنقرة وبرلين حتى تبدأ أزمة أخرى رغم وجود علاقات ومصالح كبرى مشتركة بين البلدين تاريخيا. ففي فصل جديد من التوتر الذي تشهده هذه العلاقات صرح مسؤول ألماني بارز أن بلاده مستعدة لتوفير الحماية للأتراك الذين يتعرضون لـ"الاضطهاد السياسي" من قبل حكومة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وجاء ذلك بالتزامن مع استقبال الرئيس الألماني يواخيم غاوك رئيس تحرير صحيفة جمهورييت السابق جان دوندار التي تعرض عاملون فيها للاعتقال، وذلك في بادرة رمزية للتعبير عن تضامن بلاده مع الصحفيين الأتراك المعارضين. غاوك سبق أن أعرب عن استيائه من الإجراءات التي تتخذها أنقرة، منذ محاولة الانقلاب، ضد حرية الصحافة وكذلك اعتقال زعماء ونواب في حزب الشعوب الديمقراطي.
هذه التطورات الأخيرة قابلتها اتهامات تركية شديدة اللهجة إذ صرح وزير خارجية تركيا مولود تشاووش أوغلو بأن ألمانيا "تدعم المنظمات الإرهابية ضد تركيا"، مطالبا بأن يعامل الألمان بلاده كشريك وليس كـ "بلد من الدرجة الثانية". كما سبق لأردوغان أن قال إن ألمانيا أصبحت "ملاذا للإرهابيين" بعد رفض برلين تسليم انقلابيين مفترضين طالبت بهم أنقرة منذ الانقلاب الفاشل.
وتتهم دول غربية منها ألمانيا أنقرة بشن حملة قمع واسعة في البلاد عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا وهي الانتقادات التي يرفضها إردوغان. لكن التوتر الذي تعرفه العلاقات الألمانية التركية سابق لتداعيات محاولة الانقلاب، فما سر كل هذا التوتر بين البلدين؟ هل يعود الأمر إلى خلافات عميقة بالفعل أم أنها مجرد حروب إعلامية؟
تصعيد متزايد
وشهدت الشهور الأخيرة تحديدا تزايد التوتر والتصعيد بين أنقرة وبرلين رغم أن الطرفين وقعا في مارس الماضي اتفاقا تاريخيا يفترض أن يسهم في التخفيف من أزمة اللاجئين التي تقض مضجع الأوروبيين. لكن الاتفاق نفسه كان مهددا في أكثر من مرة بأن يصبح في مهب الريح فمن جهة تواجه الاتفاقَ انتقادات واسعة داخل ألمانيا رغم تمسك المستشارة أنغيلا ميركل به، إذ يتهم مسؤولون ألمان تركيا بأنها تبتزهم فيما يخص قضية اللاجئين من خلال اشتراط تركيا السماح للمواطنين الأتراك بحرية التنقل في دول الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت الذي كان فيه الجدل حول هذا الاتفاق مشتعلا، جاءت المحاولة الانقلابية لتزيد من حدة التصعيد، فقد انعكس الاستقطاب الداخلي الذي عرفته تركيا على الجالية التركية في ألمانيا المقدر عددها بما يزيد عن ثلاثة ملايين شخص وهو ما تطور في بعض المدن إلى مواجهات عنيفة خرج على إثرها أكثر من مرة مسؤولون ألمان للتعبير على رفضهم لتحويل ألمانيا إلى ساحة للصراعات التركية الداخلية. وعلى هذا الأساس تم منع إردوغان خلال إحدى المظاهرات المؤيدة له في ألمانيا من إلقاء كلمة عبر دائرة الفيديو المغلقة، لترد تركيا على هذه الخطوة باستدعاء القائم بالأعمال الألماني.
وجاء قرار ولايات ألمانية بوقف تعاونها مع "ديتيب" وهي أكبر منظمة إسلامية في ألمانيا ويعتبرها البعض بمثابة ذراع طويلة لإردوغان في ألمانيا ليفاقم التوتر أكثر. وقبل كل هذا تعكر صفو العلاقات بشكل كبير مجددا بين الطرفين بسبب تبني البرلمان الألماني لقرار يعترف بإبادة الأرمن من طرف الأتراك، ووصل الاستياء من هذا القرار في الداخل التركي إلى التهديد بتعليق التعاون في وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا.
النموذج الفرنسي الجزائري؟
كل هذا التصعيد والتوتر المتواصل يطرح بعض المتابعين السؤال عن سبب اهتمام الساسة الألمان بشكل كبير بما يجري في الساحة التركية رغم أن دولا أخرى تشهد حملات صريحة لقمع حقوق الإنسان ولا تلاقي نفس الاهتمام وردود الفعل. في هذا الصدد يقول عبد القادر محمد الخبير المصري في الشؤون التركية إن سبب هذا الاهتمام في ألمانيا بكل ما يحدث في تركيا والتوترات المتزايدة بين الطرفين راجع في الوقت الحالي إلى أن السياسات التركية أصبحت تلقي بأعبائها على الألمان وخاصة فيما يتعلق بأزمة فتح الحدود للاجئين ودعم تنظيمات إرهابية وهو ما يرخي بظلاله على أوروبا حسب تعبيره. من جهته يدق الخبير في الشؤون التركية بوراك كوبور ناقوس الخطر بخصوص الأوضاع في تركيا في حوار مع موقع تاغس شاو الألماني، إذ يعتبر أن حملة الاعتقالات التي شنتها السلطات التركية مؤخرا توضح أن "إردوغان بصدد تحويل تركيا إلى دولة ديكتاتورية". ويرى كوبور أن هذه الاعتقالات هي "خطوة في الطريق نحو حرب أهلية في تركيا وكل ما يحدث هناك حاليا ليس سوى رأس جبل الجليد، فقد تشهد البلاد تصعيدا أكبر والوضع خطير بالفعل في تركيا".
وبينما يشبه البعض العلاقات التركية الألمانية بالنموذج الفرنسي الجزائري، يرى محمد أن الأخير لا ينطبق على نوعية العلاقات بين تركيا وألمانيا لأن العلاقات بين الجزائر وفرنسا مبنية على الإرث الاستعماري والنزعة الجزائرية الرافضة للاستعمار. ويضيف في مقابلة أجرتها معه DW عربية أن النموذج التركي الألماني فريد من نوعه ومبني على البراغماتية السياسية على أساس ثلاثة محاور أولها مطالب تركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي وهو ما تعارضه ألمانيا الدولة المحورية في الاتحاد الأوروبي وتنظر تركيا للمواقف الألمانية بهذا الخصوص بنوع من الريبة والشك.
المحور الثاني هو اتهامات تركيا لألمانيا بدعم جماعات معارضة كردية كحزب العمال الكردستاني سواء في العراق أو سوريا. أما المحور الثالث وهو جديد فيتمثل في أزمة اللاجئين التي تفرض تركيا كشريك أساسي للأوروبيين في التعامل مع هذا الموضوع. وبهذا الخصوص يرى الخبير السياسي أن التوترات المتزايدة مؤخرا دليل على الصعوبات الموجودة في تنفيذ اتفاق اللاجئين خاصة أن ألمانيا ليست راضية عن التدخلات التركية في سوريا والعراق وكل هذا يلقي بظلاله على العلاقات الثنائية.
صراعات مفتوحة وخيارات محدودة
لكن الخبير الألماني في شؤون الشرق الأوسط يينس باكر لا يرى أن العلاقات التركية الألمانية تشهد بالفعل توترات بل هي قد تكون معارك إعلامية أكثر منها صراعات حقيقية. ويضيف أن هنالك اهتماما ألمانيا بما يحدث في تركيا من جهة بسبب عدد المهاجرين الأتراك في البلاد والذين ينعكس عليهم كل ما يحدث في بلادهم. وفئة من هؤلاء المهاجرين لديها حضور في الإعلام والسياسة وتساهم في صنع القرار الألماني والتأثير على حجم النقاش الدائر حول تركيا.
ومن جهة أخرى هنالك اهتمام بتركيا بسبب موضوع عضويتها في الاتحاد الأوروبي ومما يزيد الجدل في هذا الموضوع هو أن "فئة من الطبقة السياسية الألمانية تنظر إلى تركيا بنظرة فوقية ولا تحترم تجربتها الديمقراطية لأسباب قد تكون إيديولوجية". بيد أن هذه الملاحظة قد يكون هنالك ما يسوغها في سياق مرحلة سابقة عندما كان النموذج التركي يثير إعجاب عدد من الساسة الأوروبيين والأميركيين كنموذج للتعايش بين الديمقراطية والإسلام، أما الفترة الأخيرة فهي حبلى بالمؤشرات على تراجع تركيا عن إلتزاماتها الديمقراطية، كما يرى معظم الساسة الألمان ومنهم وزير الدولة للشؤون الخارجية الألمانية ميشائيل روت الذي صرح أخيرا بأن: "ما يحدث حاليا في تركيا ليس له علاقة بمفهومنا عن القيم الأوروبية ودولة القانون والديمقراطية وحرية الإعلام، لذلك فإن ردنا على الحكومة التركية واضح: هذا لا يجوز!".
لكن رغم ذلك يرى الخبير الألماني يينس باكر أن بعض السياسيين الألمان والأوروبيين عموما يبالغون في التعامل مع يجري في الداخل التركي سواء من خلال حجم التركيز على الموضوع أو طريقة تناول الشؤون التركية. ويضيف :"من الطبيعي أن تتخذ دولة نوعية الإجراءات الصارمة التي اتخذتها تركيا بعد محاولة إنقلابية فاشلة كان من شأنها أن تجر البلاد إلى ما لاتحمد عقباه وهذا النوع من الاجراءات قد يتخذ بدرجات معينة حتى في دول غربية". ولكن في نفس الوقت لا يخفف أهمية المخاوف الموجودة من بعض ما يحدث في تركيا وتحديدا وجود أنباء عن حدوث حالات اختفاء لأشخاص لا يعلم أقاربهم شيئا عنهم وليس واضحا من المسؤول عن إختفائهم هل المخابرات أم الحكومة أم الجيش.
بينما يرى الخبيرالألماني في الشؤون التركية بجامعة دويسبورغ بوراك كوبور أن انتقادات السياسيين الألمان لتركيا لا تكفي وينبغي التوجه نحو عقوبات ضد النظام التركي. ويضيف "لقد تم السكوت كثيرا على ما يحدث هناك بسبب اتفاق اللاجئين كما أن الولايات المتحدة مازالت تعتقد أنها بحاجة إلى تركيا في محاربة الإرهاب".
ورغم أن تركيا العضو في حلف الأطلسي والشريك الأساسي للاتحاد الأوروبي، يطرح بعض الخبراء في ألمانيا وأوروبا، خيارات "عزل تركيا" وفرض عقوبات إقتصادية عليها، لكن تعقيدات العلاقات التركية الألمانية والأوروبية بشكل عام تجعل سيناريوهات تطور هذه العلاقات محكومة دائما بالمصالح المتبادلة والمعطيات الاستراتيجية المتداخلة.
الكاتبة: سهام أشطو