ألمانيا ـ مؤشرات زلزال سياسي قبيل شهر من الانتخابات
٢٥ أغسطس ٢٠٢١لأول مرة منذ 15 عاما، تصدّر الحزب الديموقراطي الاشتراكي نوايا تصويت الناخبين وذلك في وقت دقيق جدّاً. وذلك على بعد أربعة أسابيع من موعد الانتخابات التشريعية المقررة الشهر المقبل، متقدماً على التكتل المسيحي المحافظ بزعامة المستشارة أنغيلا ميركل وحزب الخضر، وفق ما أظهره استطلاع أنجزه معهد "فورزا" بتفويض من شبكتي "إر.تي.إل" و"إن.تي.في"، نُشرت نتائجه الثلاثاء (24 أغسطس/ آب 2021). يحظى الاشتراكيون وفق الاستطلاع بـ 23 في المئة من نوايا تصويت الناخبين بتقدم قدره نقطتين مقارنة مع آخر استطلاع مماثل، محتلين بذلك الصدارة لأول مرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2006، فيما تراجع التحالف المحافظ "الحزب الديموقراطي المسيحي" وشقيقه "الحزب الاجتماعي المسيحي" (البافاري) بنقطة واحدة، إلى 22 بالمئة من نوايا التصويت، وهي أدنى شعبية يحققها التكتل منذ عام 1984.
وإذا ما تأكد هذا الاتجاه، فقد يشكل ذلك مؤشراً على زلزال سياسي يفتح باب تغييرات في المشهد السياسي الألماني وبالتالي في شكل الحكومة المقبلة في برلين. وأظهر نفس الاستطلاع تراجع حزب الخضر نقطة واحدة إلى 18 بالمئة، متقدما على "الحزب الديموقراطي الحر" الليبرالي (12 بالمئة) وعلى حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتشدد (10 بالمئة) وعلى حزب اليسار (أقصى اليسار) (6 بالمئة). وتجدر الإشارة إلى أن المستشار أو المستشارة في ألمانيا لا يتم اختياره أو اختيارها عبر الاقتراع المباشر غير أن شعبية المرشح تؤثر على نتائج حزبه.
صحيفة "نويه تسوريخه تسايتونغ" (22 أغسطس/ آب) الصادرة في زوريخ، علقت على تقلبات الرأي العام الألماني حتى قبيل ظهور الاستطلاع الأخير وكتبت: "عرفت ألمانيا في السابق انتخابات تشريعية صعبة من حيث توقع نتائجها، ولكن لم يكن هناك تردد بهذا الشكل بين الناخبين قبيل موعد الاقتراع. مرشح الحزب الديمقراطي الاشتراكي لمنصب المستشارية (أولاف شولتس) في مرحلة صعود، فيما مرشح التكتل المحافظ (آرمين لاشيت) في حالة هبوط، وشريكا التحالفات المحتملة (الخضر والحزب الديمقراطي الحر) يراوحان مكانهما. كل هذا لا يعطي صورة واضحة. فمن الصعب تخيل أن أولاف شولتس سوف يقود الحكومة المقبلة بتحالف مع حزب اليسار. كما بدأ مرشح المحافظين أرمين لاشيت سباق المستشارية بشعبية متدنية. هناك شيء واحد مؤكد: التصويت بالبريد بدأ هذا الأسبوع ".
تصاعد مؤشرات القلق في المعسكر المحافظ
في ظل تراجع شعبية المعسكر المسيحي، انتقد فريدريك ميرتس الرئيس السابق للكتلة البرلمانية للتحالف المسيحي، بشدة سلوك رئيس الوزراء البافاري ماركوس زودر (الحزب المسيحي الاجتماعي) بسبب ما أسماه "مضايقته" المستمرة لمرشح المحافظين أرمين لاشيت داعياً إياه إلى "التوقف الآن والسعى بدوره إلى الفوز والقتال معنا للظفر بالانتخابات".
يذكر أن المرشح لاشيت (60 عاما) المعروف بوسطيته، يواجه صعوبات كبيرة في فرض نفسه في الحملة الانتخابية، ولكن أيضا أمام منافسه داخل التكتل المحافظ، البافاري ماركوس زودر الذي يتمتع بشعبية أكبر. وكان السباق محموما بين الاثنين، إلى أن تمّ في نهاية المطاف اختيار الأمين العام للتحالف المسيحي، أرمين لاشيت مرشحا لخلافة ميركل.
ورغم أن زودر جدد دعمه السبت (21 أغسطس/ آب) للاشيت قائلا: "أرمين، بإمكانك التعويل على مساندتي، أقول ذلك بكل صدق"، إلا أنه حذر من التراجع الحالي في شعبية المحافظين معتبرا أن توقعات استطلاعات الرأي تشير حاليا إلى انّ النتائج ستكون "متقاربة، متقاربة جداً وعلى الجميع إدراك ذلك وبالتالي فإن الرهان سيكون هو الفوز بكل شيء أو لا شي (..) ليست لي أيّ رغبة في الانتقال إلى المعارضة" يقول زودر.
وبهذا الصدد كتب موقع القناة الألمانية الثانية "زد.دي.إيف" (23 أغسطس/ آب) بأن التكتل المسيحي بدأ المرحلة الساخنة من الحملة الانتخابية، وسط قلق قادته وعدم رضاهم على مسار الحملة حتى الآن. وقبل يوم من ذلك، صرح ماركوس زودر لصحيفة "مونشنه موركور" قائلا: "حان وقت الاستيقاظ والاقلاع والقتال". من جهته اعتبر الأمين العام للحزب المسيحي الاجتماعي البافاري ماركوس بلوم في تصريح لصحيفة "آوغسبورغ الغماينه" (23 أغسطس/ آب) استطلاعات الرأي بأنها "غير جيدة" بالنسبة للحزب الديمقراطي المسيحي على المستوى الاتحادي ما سوف يؤثر "سلبا" على الحزب البافاري، مذكرا في الوقت ذاته على أن شعبية زودر "لم تتراجع أبداً (..) هذا ما تظهره جميع الاستطلاعات".
أرمين لاشيت ـ مرشح بهفوات لا تنتهي..
يواجه المرشح أرمين لاشيت موجة من الشكوك حول قدرته على قيادة التكتل المحافظ في الانتخابات المقبلة وبالتالي خلافة ميركل في منصب المستشارية. ومنذ ترشيحه رسميا، جاءت سلسلة من الهفوات التواصلية القاتلة ساهمت في تراجع شعبيته الضعيفة أصلاً، كان آخرها نوبة ضحك في منطقة منكوبة التقطتها عدسات الكاميرات على هامش زيارته لبلدة إرفشتات المتضررة من الفيضانات الكارثية الأخيرة (170 قتيلا). لاشيت الذي يشغل أيضا منصب رئيس حكومة ولاية شمال الراين ويستفاليا، إحدى الولايات التي وقعت فيها الفيضانات، سارع إلى الاعتذار بشدة وقال حينها "كان هذا سلوكا غبيّاً وأحمقاً، ما كان ينبغي أن يحدث لي ذلك في تلك الثواني القليلة". صحيفة "تاغسشبيغل" الصادرة في برلين (23 أغسطس/ آب) قارنت بين الأعصاب الفولاذية لميركل وعدم قدرة لاشيت على السيطرة على مشاعره وكتبت "إذا أراد لاشيت تولي منصب المستشار فعليه أن يكون قادراً على إدارة الأزمات. هذا الأمر ما كان ليحصل لميركل".
وأقرّ أرمين لاشيت أيضا بارتكابه "أخطاء" بعد اتهامه بالسرقة الأدبية في كتاب أصدره قبل سنوات، على غرار منافسته مرشحة حزب الخضر أنالينا بيربوك، قائلا: "هناك وبوضوح بعض الأخطاء التي أتحمّل مسؤوليتها". واعترف الأخير بنقل محتوى من كاتبٍ واحدٍ على الأقل دون ذكره كمصدر في كتابه الصادر عام 2009. وتابع لاشيت: "أريد أن أتقدّم باعتذاري". هفوات لاشيت المتكررة تكرس جدلا قديما/ جديدا حول أهلّيته لقيادة ألمانيا، إذ سبق له أن تعرض لحملات تشكيك في مواقع التواصل الاجتماعي بسبب إداراته لجائحة كورونا. صحيفة "شتوتغارتر تسايتونغ" (30 يوليو/ تموز) كتبت بشأن مزاعم السرقة الأدبية التي طالته حينها أنّ "لاشيت يتصرف مثل من يفكك نفسه، يبتسم في اللحظة الخاطئة حينما يتطلب منه الموقف الظهور في موقف رجل دولة. والآن عليه أيضًا أن يعترف بأخطاء في كتابه. هذا يذكرنا بشكل قاتل بما قامت به مرشحة حزب الخضر".
شولتس ـ الصعود الصامت لمرشح الاشتراكيين
مصائب قوم عند قوم فوائد، مثل ينطبق بالتمام والكمال على أولاف شولتس، مرشح الاشتراكيين الألمان والمنافس الأكبر لأرمين لاشيت. شولتس يشغل منصب وزير المالية ونائب المستشارة ميركل في الائتلاف الحاكم في برلين. وأظهر استطلاع أجرته القناة الثانية للتلفزيون الألماني "زد.دي.إف" (الجمعة 20 أغسطس/ آب) أن 59 بالمئة من الناخبين يثقون في "قدرته" على تولي منصب المستشار بارتفاع قدره خمس نقاط، مقارنة باستطلاع سابق قبل أسبوعين. ارتفاع شعبية شولتس تسير بالتوازي مع تراجعها عند لاشيت. فقد كشف نفس الاستطلاع عن تأييد للأخير لا يتجاوز 28 بالمئة، فيما اعتبر67 بالمئة ممن شملهم الاستطلاع أنه غير مناسب لمنصب المستشار، مقابل 33 بالمئة يرون شولتس غير مناسب للمنصب. أما مرشحة حزب الخضر، انالينا بيربوك فاحتلت المركز الثالث، إذ أعرب 23 بالمئة عن اعتقادهم بأنها مناسبة للمنصب، مقابل 70 بالمئة يرون عكس ذلك.
صعود شعبية شولتس خمسة أسابيع قبل الانتخابات العامة، تشكل تحولاً مثيراً، خصوصا وأنه يوصف كشخصية غير كرازمتية لا تتقن فنّ الخطابة. غير أنه تمكن خلال الفترة الأخيرة من تقديم صورة السياسي الكفء لدى الناخبين، تزامنا مع مراكمة أرمين لاشيت وأنالينا بيربوك لأخطاء كارثية دفعتهم كل مرة لتقديم اعتذارات. وحول ذلك كتب موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى (24 أغسطس/ آب) صعود نجم شولتس: "أريد حقًا دخول مكتب المستشارية، بصفتي مستشارا"، جملة قالها أولاف شولتس قبل نحو عام وأضحكت حينها الكثيرين. (..) شولتس كان يسمى "14 بالمئة أولاف" (نسبة إلى شعبيته المتدنية في الاستطلاعات) أو "ملك بلا وطن" (..)، لكن وحده شولتس المبتسم الهادئ كان يعرف ما لم يكن يصدقه أحد في ذلك الوقت". ويستفيد الحزب الديموقراطي الاشتراكي، الذي اكتفى على مدى السنين الأخيرة بالمركز الثالث أو الثاني في أحسن الأحوال، من حملة انتخابية تبدو خالية من الأخطاء لحد الآن يقودها مرشحه بكثير من المهارة.
خمسة أسباب تفسر تقدم شولتس
سردت صحيفة "هاندلسبلات" الاقتصادية (25 أغسطس/ آب) خمسة أسباب فسرت بها الإقلاع الهادئ والمطرد لشعبية أولاف شولتس. أولها عدم ارتكابه لأي خطأ عكس منافسيه المباشرين، وهو ما فاجأ أعضاء الحزب الاشتراكي أنفسهم. وكتبت الصحيفة أن شولتس لم يثر الانتباه "بمبادرات كبرى أو خطابات حماسية، لكنه لم يرتكب أي أخطاء، وهي صفة تتميز بها أيضا المستشارة أنغيلا ميركل". أما السبب الثاني فيعود لحملة انتخابية معدّة بشكل جيد. فقد تعهد الديموقراطيون الاشتراكيون بالتعلم من أخطاء حملاتهم الانتخابية السابقة عقب هزيمتهم القاسية في انتخابات عام 2017، بعد أن أعدّوا تقريراً مفصلاً يحمل عنوان "التعلم من الأخطاء"، ويبدو أن أعضاء الحزب التزموا به بالفعل.
السبب الثالث هو وحدة الحزب ووقوفه وراء المرشح شولتس "فلسنوات، تمزقوا وتقاتلوا فيما بينهم داخليًا كما لم يحدث في أي حزب آخر في ألمانيا. (..) غير أن الأمر تغير اليوم، وهذا أمر مذهل بالنظر إلى ما كان عليه الحزب في عام 2019". تقول هاندسبلات.
أما العامل الرابع فيعود حسب الصحيفة إلى المنصب الذي يشغله شولتس كنائب للمستشارة ميركل، فشولتس يرى أن الناخبين سيهتمون بالمرشحين قبل أسابيع من الانتخابات حين سيرون أن ميركل ستغادر فعلا منصبها، وحينها فقط سيختارون المرشح الأكثر خبرة. استراتيجية يبدو أنها بدأت في إعطاء أكلها تقول الصحيفة. أما السبب الخامس فيعود لعدم تضرر شولتس من أزمة أفغانستان التي ألقت بظلالها على الحملة الانتخابية. ورغم أنه، بصفته نائبا للمستشارة، حضر جميع جلسات خلية الأزمة، إلا أن صورته لم تتضرر، عكس وزير الخارجية هايكو ماس الذي كان في الواجهة وبدأت الأصوات تطالبه بالاستقالة.
حسن زنيند