ألمانيا - بين التنوع العقائدي والانتماء للكنيسة
٢٢ يوليو ٢٠١٢إذا سألت الناس في ألمانيا عن انتمائهم الديني فستحصل سريعا على جواب ما، ولكن إذا سألتهم عن معتقداتهم وتصوراتهم الدينية فغالبا ما تتسم الأجوبة بالتردد والإبهام. ومن أجل الوقوف على حقيقة الأمر قامت مؤسسة العلوم الدينية للإعلام والتواصل (REMID) في ألمانيا بإحصائيات واستطلاعات للرأي أظهرت صعوبة تحديد التصور الديني وأشكاله في المجتمع.
وأكدت الإحصائيات على أن ألمانيا لازال بلدا بأغلبية مسيحية رغم التحولات الاجتماعية والتطورات في الخريطة الدينية للبلد، خاصة بسبب أمواج الهجرة من ثقافات مختلفة. ومن بين أهم التحولات التي رصدتها الإحصائيات هو ارتفاع عدد الملحدين وغير المؤمنين بالمعنى التقليدي. وفيما يتعلق بالتقسيم الجغرافي للأديان في ألمانيا فقد أكد خبراء في علم الاجتماع الديني أن شرق ألمانيا يعتبر من المناطق الأقل ارتباطا بالأديان السماوية، حيث تتزايد فيها نسبة عدد الملحدين.
الموقف العقائدي والمرحلة الإنتقالية في أوروبا
ماتوصلت إليه مؤسسة الإستطلاعات REMID بشأن ارتفاع عدد الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود قوة إلاهية عليا ليس هو المؤشر الوحيد على التحول الديني الذي تمر به ألمانيا وأوروبا عموما، فهناك الكثير من الإحصائيات والدراسات التي تؤكد هذا الطرح أيضا، ومن بينها الدراسة التي أجرتها مؤسسة الأبحاث الألمانية TNS-Emnidقبل احتفالات أعيادميلاد المسيح للعام الماضي 2011، و توصلت استطلاعات الرأي التي قامت بها الى نتائج لم تكن متوقعة، حيث أكد 63% من الذين استطلعت آراؤهم على أنهم يؤمنون بوجود الإله وقال 59% منهم إنهم يؤمنون بأن النبي عيسى هو ابن الله وصرح 48% بأنهم يؤمنون بوجود حياة بعد الموت في حين يؤمن 29% منهم بيوم القيامة.
ويتوازى هذا التحول في المنظومة العقائدية مع مستوىالممارسة الدينية، التي تعرف أيضا تراجعا كبيرا حيث إن عددا قليلا من المؤمنين يشارك في المراسم والشعائر الدينية في الكنائس. فالكنيسة البروتستانتية على سبيل المثال تسجل نسبة مشاركة في الشعائر الدينية بمستوى 3, 6 % أي ما يعادل 860000 شخص، في حين تسجل الكنيسة الكاثوليكية نسبة 13 % أي ما يعادل 3.1مليون متدين. ويجدر الإشارة الى أن المنتمين للكنيسة الكاثوليكية شاركوا خلال الخمسينات من القرن الماضي بنسبة أعلى من 50 بالمائة في المراسيم والشعائر الدينية الكنائسية.
ويمكن ملاحظة التحولات في المفاهيم الدينية في ألمانيا من خلال بعض الممارسات والتعاملات الاجتماعية في الحياة اليومية للأفراد، مثل التخلي عن تلاوة الدعاء قبل تناول وجبات الطعام. وحسب دراسة أجريت في ديسمبر من العام الماضي فقد انخفضت نسبة هؤلاء الى حوالي 6 % بالمائة فقط. في بداية ستينيات القرن الماضي التزم أكثر من ثلث المؤمنين بتلاوة دعاء الشكر لله على نعمته قبل كل وجبة. يضاف الى ذلك الى أن 50 بالمائة من الألمان لم يعدوا يقرؤون الإنجيل ولم تعد لهم علاقة وطيدة بالدين والممارسة الدينة. ومن أهم انعكاسات هذا التطور هو ابتعاد العديد من الألمان عن الكنيسة وتخليهم عن الرابط القائم معها، حيث إن أكثر من 300000 مسيحي في المانيا يقررون مغادرة المنظومة الكنائسية كل سنة ويتخلون عن الإنتماء لها بشكل رسمي.
العقيدة و الدين والتدين
ومن أجل إعطاء نظرة إجمالية حول العقائد المتنوعة والممارسات الدينية في العالم، قامت مؤسسة بيرتيلسمان الألمانية عام 2008 باستطلاعات للرأي في 21 دولة. ومن أهم الأسئلة التي تم طرحها على المشارك في الإستطلاع: أين تتجلى لديك أوجه الممارسة الدينية؟ ما هي الأحاسيس التي تربطها بالدين والتدين؟ وما هي الشعائر الدينية التي تمارسها يوميا وما مدى أهميتها بالنسبة لك؟
كانت نتائج الاستطلاع في ألمانيا "مبهرة ومفاجئة" على حد تعبير كاي أنتسيكر، مدير مشروع الاستطلاع:" إذا أخذنا إجمالي عدد سكان ألمانيا، فإن حوالي 18 % منهم متدينون جدا، في حين أن 52 % منهم وصفوا أنفسهم بأنهم متدينون. هذا في الوقت الذي يعتبر فيه ثلث الألمان أنهم ملحدون أو غير مرتبطين بعقيدة دينية معينة." وهذا بصرف النظر عن وجود بعض التيارات العقائدية المرتبطة برموز الطبيعية أو غيرها من التوجهات العقائدية الحديثة المنتشرة حاليا في أوروبا.
تنوع الأديان والعقائد
كاي أنتسيكر، الخبير في علوم الاجتماع والتربية يلاحظ أيضا وجود تنوع في الممارسات الدينية، حيث إن" التدين أصبح أمرا فرديا في أشكال متنوعة. وقد توجد داخل المذهب الديني الواحد أوجها مختلفة للممارسة الدينية، حسب التفسير الشخصي للعقيدة". كما يتأثر الفرد أيضا بأوجه الممارسة الدينية لمعتقدات أخرى، مثل المواقف المرتبطة بالتأملات الروحانية وبالطبيعة وغيرها من الأشكال الروحانية الأخرى.
هذا التوجه أو التنوع في الممارسة الدينية يؤكده أيضا الصحفي ماتياس دروبينسكي ، المتخصص في الشؤون الدينية في جريدة Süddeutsche Zeitungالألمانية:" نلاحظ وجود بعض المزج في الممارسة الدينية، خاصة عند الأشخاص ذوي الخلفية المسيحية، فبالرغم من أن التصورات السائدة هي مسيحية الأصل، إلا أنهم يقومون بمزجها مع أشكال أخرى من العناصر العقائدية".
دروبينسكي تعاون مع الصحفية كلاوديا كيلر في تأليف كتاب بعنوان " ألمانيا، الجمهورية الدينية، جولة عبر الدولة المتدينة". و يتطرق الكتاب لصورة التنوع في الممارسات الدينية من خلال عرض أحداث لأشخاص يلعب الدين والتدين دورا مهما في حياتهم. ومن بين هذه الشخصيات، إحدى العرافات التي تمارس العبادة في الكنيسة البروتستانتية." فهي ترى في السيدة مريم شخصية رائعة، ولها نفس الموقف من المسيح. وهي مواقف تتطابق مع المعتقدات الكاثوليكية، وفي نفس الوقت تثق العرافة بقوة المجهول وبالتالي بقوة القدر التي تراها العرافة على الأوراق. إن مثل هذه المواقف في تزايد مستمر- كما يؤكد المتحدث. ويعني ذلك أن عددا من الأشخاص ذوي الخلفية المسيحية يبتكرون معتقداتهم وأديانهم الخاصة". و يثير هذا التوجه قلق المؤسسات الكنائسية في ألمانيا وأوروبا.
مطالب تجاه الكنيسة
غير أن دروبينسكي لا يعتقد أن الكنائس المسيحية ستندثر بسبب هذا التطور ويقول إنها" ستبقى مستقبلا أهم المؤسسات الدينية على المدى القريب، غير أن عدد المنخرطين سيتراجع، وفي نفس الوقت ستكون هناك تغيرات جدرية." و يعني دوربينسكي بذلك أن المنتمين للكنيسة سيطلبون من المؤسسة الكنائسية القيام بتغييرات جذرية و إلا فإنهم سيبحثون عن أشكال عقائدية أخرى خارج تلك المؤسسة الدينية. كما يرى دروبينسكي أن الكنيسة ستكون مضطرة للقيام بالعديد من التغييرات.
ويتوقع كاي أونتسيكر نفس التوجه في ألمانيا فهو يعتبر أن" التدين سيضل قائما، ولكن ذلك لن يكون دائما داخل إطارمؤسساتي فقط."
كلاوس كريمر/ أمين بنضريف
مراجعة: عبدالحي العلمي