٩ سبتمبر ٢٠٢١
يطلقون عليه تندرا "كورال"، يرسلون إليك رقمه مسجلاً تحت هذا الإسم، وهو لقبٌ بدأ يلتصق به ويعجبه، كما يقول في حوار لـ DW عربية واسمه الحقيقي محمد. لكن عمله في بيع غالونات البنزين في السوق السوداء حوّله إلى "كورال" وهو اسم إحدى شركات توزيع المحروقات في لبنان. و"كورال" يعيش في ضاحية بيروت الجنوبية، في بيت متواضع، لكنه مضاء على عكس بيوت كثيرة تغرق في العتمة بعد عجز الدولة عن تأمين الكهرباء إلى منازل اللبنانيين بسبب نقص الاعتمادات وتهالك معامل الإنتاج وارتفاع كلفة صيانتها بعد انهيار العملة اللبنانية أمام الدولار.
يمسك "كورال" آلة التحكم بالمكيف عن بعد ويشغّله، ويقول: "لو أنني لا أعمل في بيع البنزين في السوق السوداء لما كان بإمكاني أن أشغّل المكيف ولا أن أضيء منزل أهلي". وصلت فاتورة اشتراك مولّد الكهرباء في لبنان، مع شبه انقطاع تام لـ"كهرباء الدولة"، إلى ما يزيد على مليون ليرة لبنانية لكل 5 أمبير. هذا مبلغ هائل ما كان يمكن لـ"كورال" تأمينه حين كان يعمل سائق أجرة.
في الفترة ما قبل بروز هذه "الفرصة" للعمل في السوق السوداء، كان محمد يعمل على سيارته العمومية، ينقل الركّاب. وما يحصّله يومياً لا يتخطى مئة ألف ليرة لبنانية. أي أن مدخوله الشهري لو عمل لثلاثين يوماً متواصلاً من دون عطلة، لن يزيد على ثلاثة ملايين ليرة، وهي تعادل اليوم حوالي 150 دولاراً بحسب سعر صرف السوق السوداء. سيكون عليه أن يدفع أكثر من ثلث مدخوله لتأمين خمسة أمبيرات من المولد لمنزله الذي يعيش فيه مع امه وأبيه وأخويه الصغيرين.
تجارة مربحة غير شرعية
فُتحت أبواب السوق السوداء على مصراعيها أمام "كورال"، فقد ازداد الطلب على مادتيّ البنزين والمازوت في السوق المحلية مع تقليل مستوى الاستيراد من الخارج بسبب شحّ الاعتمادات التي يخصصها مصرف لبنان لدعم استيراد المحروقات. وانتبه مع كثيرين غيره ممن يعملون في مهن حرة، أو العاطلين من العمل، إلى تجارة مربحة في السوق السوداء، تقتضي بشراء المحروقات عن المحطات بالسعر الرسمي (بلغ حتى كتابة هذه السطور 130 ألف ليرة لبنانية لصفيحة البنزين وحوالي 100 الف ليرة لصفيحة المازوت)، وبيعها بالسوق السوداء لأشخاص لديهم قدرة شرائية عالية، بأسعار تزيد على 600 ألف ليرة لصفيحة البنزين.
هكذا ترك محمد عمله كسائق أجرة، وتحوّل إلى "كورال" الذي يستخدم سيارة الأجرة خاصته لملأ خزانها بالوقود بعد انتظار ساعات في الطابور، ثم إفراغ الخزان بـ "غالونات" سعة 10 ليترات، وبيع الغالون الواحد في السوق السوداء بمعدل 300 ألف ليرة، وأحياناً أكثر.
يقول محمد إنه يرافق صديقه الذي يعمل على حافلة "فان" لنقل الركاب، إلى طوابير البنزين حيث يمضيان النهار لملئ خزانيهما. ثم يفرغان الحمولة في غالونات ويبيعانها في السوق السوداء. لا يقل ما يجنيانه يومياً عن مليون وخمسمئة ألف ليرة لبنانية؛ أي 15 ضعف ما كان يجنيه محمد يومياً من عمله كسائق أجرة: "أحياناً تصل يوميتي إلى ما يزيد على مليونيّ ليرة لأنني أحيانا أبيع غالون البنزين بأكثر من 400 ألف ليرة لبعض المضطرين"، يقول.
في بعض الأحيان ينجح "كورال" في ملئ خزان سيارته مرتين في اليوم الواحد، ما يضاعف مدخوله اليومي إلى ما يزيد على ثلاثة ملايين ليرة، أي مئة وخمسين دولاراً، كان يحصل من عمل شهر كامل كسائق أجرة.
لكن ألا يخشى "كورال" من توقيفه من قبل القوى الأمنية وسجنه بسبب عمله هذا؟ يجيب كاشفاً أنّ صديقه استدعي من قبل فرع المعلومات للتحقيق، لكن هو يبدو أنه لا يزال حتى الآن خارج الشبهات، ويضيف "اذا جرى توقيفي سأقول للقاضي أن يضع نفسه مكاني. كيف يستطيع النظر في عينيّ أمي التي تحتاج إلى دواء لا أستطيع شراءه؟ أنا لا أؤذي أحداً بعملي هذا. أشتري وأبيع وأربح. هذا كل ما في الأمر".
مؤشّرات مقلقة
ما يراه "كورال" نعمة، يُقلق بشكل كبير الخبير القانوني الدولي في الشؤون الاقتصاديةعلي زبيب، خصوصاً أن كثيرين مثل "كورال"، يعرفهم زبيب عن قرب، تركوا أعمالهم ويتفرغون للعمل في السوق السوداء. وبعضهم، أنهى أعمالا كانت تعتاش منها عائلات، لأجل التفرّغ للتربّح من بيع البنزين في السوق السوداء. يقول زبيب لـDW عربية إن حلّاقا، أقفل صالون الحلاقة، وصرف موظفين، مع أنه كان يؤمن له ما يعادل 750 الف ليرة يومياً، لأنه وجد أن العمل في تعبئة البنزين وبيعه يؤمن له أضعاف ما كان يجنيه. وهكذا، بسبب مغريات سوق المحروقات السوداء، وجد شخصان نفسيهما بلا عمل.
كما يضرب زبيب مثلاً آخر عن موظف رسمي استقال من وظيفته تماماً للعمل في السوق السوداء، وهذا الشخص سيجد نفسه من دون عمل تماماً، بعد انتفاء الحاجة إلى سوق سوداء للبنزين بعد رفع الدعم عن المحروقات. وسنكون بحسب زبيب أمام كارثة اجتماعية بعد رفع الدعم مع اعتياد كثيرين على بحبوحة السوق السوداء، وما سيترتب على غيابها من أزمات معيشية جديدة، وارتفاع في نسب البطالة، وازدياد في جرائم السرقة والنشل.
عضو نقابة أصحاب المحطات في لبنان جورج براكس يقول إن طوابير البنزين أمام المحطات تنقسم إلى ثلاث فئات: "فئة تشتري البنزين للإستخدام الشخصي اليومي في سياراتها، وفئة ثانية تقوم بتعبئة خزانتها وإفراغها لاحقاً في غالونات أو مستوعبات للتخزين، وهذه الفئة لا تبيع البنزين في السوق السوداء بل تخزنه خوفاً من انقطاعه في المستقبل".
أما الفئة الثالثة، فتشكّل، بحسب براكس، أكثر من نصف سيارات الطوابير، وتقوم بتعبئة البنزين لنقله الى غالونات وبيعه في السوق السوداء. ومعظم هؤلاء، يقول براكس، يبيعون البنزين إلى القادرين على الدفع، خصوصاً المغتربين اللبنانيين الذين يزورون لبنان صيفاً، ومن يتلقون رواتب بالدولار من العاملين في جمعيات المجتمع المدني والشركات العالمية والإعلاميين ومنظمات الإغاثة وسواها. وهؤلاء لا يسألون عن السعر لأنهم يحتاجون إلى البنزين بشدّة لتنقلاتهم، ويمتلكون الدولار لدفع ثمنه. ويكشف براكس عن وجود خدمة "ديليفري" لدى بائعي البنزين في السوق السوداء، إذ يؤمنون غالونات البنزين إلى زبائنهم من المصطافين في المناطق البعيدة عن العاصمة بيروت.
لكن ما لحل؟
الحل لمسألة السوق السوداء المتعلقة بالمحروقات لن يكون إلا برفع الدعم نهائياً من قبل مصرف لبنان، وهذا أمر يتفق عليه براكس مع زبيب. كلاهما يقول إن أثر رفع الدعم سيكون إيجابياً في هذا الجانب من الأزمة، مع ما قد يترتب عليه من آثار سلبية في جوانب أخرى من حياة اللبنانيين. لكن "كورال"(محمد) يتمنى ألا يُرفع الدعم، يقول ذلك بينما لا يزال يتمتّع بهواء المكيف، الذي قد يُحرم منه في حال انقطاع "رزقه" من السوق السوداء.
رامي الأمين - بيروت