آلام وآمال.. اللاجئون اليمنيون المنسيون في جيبوتي
٢٤ يونيو ٢٠١٦ترمي الشمس آخر أشعتها على المكان مودعةً نهار هذا اليوم. ليس المكان إلا مخيما للاجئين اليمنيين بالقرب من المدينة الصحراوية، أوبوك. يقهقه صبية صغار بصوت منخفض ويحدثون جلبة وأصواتا مختلفة وهم يقتربون بتردد من قطيع الإبل. يرمي الصبية القطيع بالحجارة. القطيع غير مبال، فهو يمشي متهادياً في مشيته على طريق رملي بين الخيم. عند نهاية الطريق تدخل الإبل خيمتها. ستمكث الإبل في خيمة حتى انتهاء شهر رمضان ليتم ذبحها في عيد الفطر السعيد.
تسبب تصعيد القتال في اليمن عام 2015 بنزوح آلاف اليمنيين إلى جيبوتي عبر مضيق باب المندب (باب الدموع) في جنوب البحر الأحمر. وقد اكتسب المضيق اسمه من كثرة ما ذُرف من دموع على البشر، الذين لقوا حتفهم أثناء محاولتهم عبور المضيق ذي العرض البالغ ثلاثين كيلو متراً.
استقر الكثير من اللاجئين اليمنيين بعد عبورهم المضيق على أطراف مدينة أوبوك الواقعة على أطراف الصحراء ومباشرة على زاوية القرن الإفريقي، لا ترحب المدينة بالغرباء. تقتصر الخدمات في المخيم على الحد الأدنى من الأساسيات. وهناك مدرسة افتتحتها إرسالية مسيحية لتعليم التلاميذ واليافعين القراءة والكتابة، وبعض الأشياء الأخرى التي تفيدهم في حياتهم.
"يهمنا أمر كل فرد وكل طالب. الجميع له قيمة ومستقبل يجب الاهتمام به. يستحق الجميع الاستثمار فيه"، تقول مارينا فيشونا، متطوعة مسيحية من لوس أنجلوس أمضت العام المنصرم في المخيم. "ما نفعله يعطي العائلات شعوراً بعودة الحياة الطبيعية إلى مجراها وتمنح الآباء بعض الراحة نظراً لأن هناك من يساعد بتدريس الأطفال وتعليمهم الصح والغلط وإشغالهم بأشياء يفعلونها في هذه الصحراء"، تتابع مارينا.
يوم بطيء ثقيل شديد الحرارة
وحده، منظرالجمال وهي تذهب وتجيء يكسر رتابة اليوم الطويل في المخيم، وخصوصا في أيام رمضان حيث تصل درجات الحرارة إلى 38 درجة مئوية وأكثر. يسكن الخيام يمنيون من مختلف أنحاء اليمن ومن كل مشارب ودروب الحياة: من صيادي السمك الأغنياء إلى المهنيين الأثرياء والبسطاء الفقراء.
"أهلا بكم إلى العصور الوسطى"، يقول علي ويرفع بيده قطعة قماش، موضوعة كباب للخيمة، والابتسامة لا تفارق محياه. في زاويتي الخيمة بابان يؤديان إلى خيمتين إضافيتين. يعيش علي ووالدته وإخوته الخمسة هنا. يذهب اثنان من إخوته إلى المدرسة حيث يدّرس علي متطوعاً. قبل فرارهم من اليمن عاش علي وعائلته حياة أفضل بكثير من هذه في العاصمة صنعاء، قبل أن يقضي والده إثر انفجار قنبلة. "كان مستقبلي في اليمن عندما كان لي أب ولديه دخل. ولكن إذا عدنا سنبدأ من الصفر. قبل موت الوالد كنا نعتمد عليه. ولكن الآن على من نعتمد؟"، يقول شقيق علي ذو الثمانية عشر ربيعاً.
احتضن المخيم حوالي 30 ألف لاجئ في أكثر أيامه اكتظاظاً، أما اليوم فلا يقيم فيه إلا ما يقارب ال 1000، فقد بدأ اللاجئون بالعودة إلى اليمن. "لا شيء يغني عن الوطن"، تقول إحدى النسوة، اللواتي كنا يتناقشن فيما يفتقدنه هنا في المخيم. وتتابع "حتى عندما يكون حالك أحسن في مكان آخر خارج الوطن، لا يمكن مقارنة هذا المكان بالوطن. الوطن أفضل مكان على وجه البسيطة، حيث مرابع الطفولة والصبا، والعادات والتقاليد والمساجد والثقافة. نفتقد كل شيء: أنفاس اليمن وعبق أمواجه وحتى أصغر التفاصيل. نفتقد حتى بقّال الحي". تقول دينا (44 عاما)، إنها خططت للعودة إلى اليمن، غير أن الشكوك تعتريها الآن بعد تلقيها مكالمة هاتفية من ابنها، الذي عاد لمتابعة دراسته الجامعية، إذ أخبرها أن قتالاً ضارياً لا يزال دائراً هناك.
حرب بالوكالة تجعل من اليمن يمنين
"متى سيحل السلام؟ ربما بعد ثلاثين سنة، بعد موت هذا الجيل ومجيء جيل جديد محب للسلام ومحب للآخر"، يقول شيخ أحد القبائل اليمنية، ذو الـ45 سنةً، والذي فضل عدم ذكر اسمه لحساسية موقعه. "لم يكن لدى المتمردين الحوثيين شيئاً، جاؤوا وأخذوا كل شيء وقتلوا الكثيرين. لا بد أن أحداً ما يقف وراءهم، وإلا كيف كانوا سيحصلون على مثل تلك الأسلحة"، يضيف الشيخ.
وقع اليمن ضحية لحرب بالوكالة بين السعودية التي تدعم قوات الحكومة اليمنية، وإيران التي تدعم المتمردين الحوثيين. وحسب اليمنيين هنا في المخيم فإن المتمردين الحوثيين ارتكبوا أكثر وأسوأ الفظائع في الحرب الدائرة في اليمن.
تتذكر مارينا كيف أنها طلبت في أحد الأيام من تلاميذ المدرسة رسم لوحة لصف مدرسي، ولكنها وجدت نفسها أمام لوحات مليئة بالخرابيش والبيوت المدمرة والقوارب المستهدفة بالقصف وأشلاء ودماء. لدى عبور بعض اللاجئين لمضيق باب المندب تم قصف قواربهم من البر من قوات لم تعرف هويتها.
يعاني لاجئون كثيرون من اضطرابات ما بعد الصدمة، وغالبا ما ينسى العالم هذه المشكلة في زحمة المصائب الأخرى، حسب ما تقول مارينا. "مؤسسات الإغاثة الدولية تعمل وفق برامج ومشاريع؛ أي أنها لا تفصل عملها على مقاس الأفراد. الشخص المصاب باضطرابات ما بعد الصدمة يحتاج لرعاية خاصة. طريقة عمل تلك المؤسسات يفقد البشر إنسانيتهم ويتعامل معهم كما لو كانوا أشياء. نحن-ككنيسة- نرى ونتعامل مع البشر كأفراد وليس كمجموعات. الأمر لا يتعلق بميزانية المشروع، بل يتعلق بالإنسان الفرد".
"مدرسة المخيم تلم شمل اليمنيين"
لقيت الحكومة الجيبوتية انتقادات بسبب عدم قيامها بما يكفي من الجهود لمساعد اللاجئين. غير أن مارينا تشير إلى أن وزارة التربية ساعدتها عندما أخذت مجموعتين من الطلاب إلى جيبوتي العاصمة لتقديم الامتحانات. "تفعل الحكومة ما بوسعها. فهي أنقذت آلالاف الأرواح. وتستحق الشكر لفتح حدودها للناس الذين لم يكن لهم مكان آخر يلجؤون إليه"، يصرح السفير الأمريكي الذي زار المخيم واستضاف طلاب مدرسة المخيم في سكنه عند تقديمهم الامتحانات في العاصمة.
"بلغ عدد اللاجئين اليمنيين حوالي 35 ألفاً وهو يشكلون نسبة كبيرة مقارنة بعدد سكان جيبوتي البالغ حوالي نصف مليون نسمة"، يتابع السفير. بعد انتهائهم من تقديم الامتحانات، يعود الأطفال إلى حياتهم السابقة المملة الرتيبة في المخيم.
لا يزال الخوف مخيماً على الكثيرين مثل غادة (20 عاما) التي كانت بين من قدموا الامتحانات في العاصمة، فمن الواضح أن الكلمات لا تسعفها للإجابة على السؤال التالي" ما درجة سوء الوضع في اليمن، قبل أن تغادريه؟
"تزيل مدرستنا بعض الخلافات المناطقية وبعض الجروح والندوب التي خلفتها الحرب في النفوس. ارتكب الكثير من اليمنيين فظائع في الحرب، ولكن تبقى مدرستنا هي من تضم طلابا من مختلف أنحاء اليمن-ومن الآباء والأبناء- وتعيد توحيدهم كشعب واحد"، تختم مارينا حديثنا معها عن المخيم ومدرسته وسكانه.