1914: عندما فوتت روسيا فرصة الاتحاد مع أوروبا
١٤ أبريل ٢٠١٤يا للعار، يجب أن أعترف: لقد نشأت في موسكو، وبالتحديد بالقرب من محطة مترو "سوكول"، ولم أعلم حتى وقت قريب أن هذا المكان كان مقدسا لكثير من الروس، الذين فقدوا أقارب لهم في الحرب العالمية الأولى. في الحديقة، التي ضمت في جنباتها مكان اللعب الخاص بنا، حيث كنا نتزلج على الجليد، وحيث كانت مواعيد مراهقتنا مع الفتيان، هنا كانت توجد في الماضي "مقبرة للشهداء". هذه البقعة تضم آلافا من قبور الجنود والضباط والممرضات والأطباء العسكريين.
وحتى عام 1917، كانت هذه البقعة هي المثوى الأخير لـ 18 ألف شخص. وفي عام 1918 افتتحت كاتدرائية صغيرة في المكان. ولكن بعد ذلك بفترة قصيرة قام البلاشفة بتفجيرها وردموا المقبرة مسوّينها بسطح الأرض. لا شيء يجب أن يذكر المواطنين السوفيات الجدد بـ"الإمبريالية الحربية ". وبدلا من "الماضي" الخالي من المجد جاء "المستقبل المشرق" - على شكل منتزه يضم مكانا للتدرب على إطلاق النار وملعبا للأطفال ونوافير وسينما.
الحرب المنسية
في عهد الاتحاد السوفياتي منع تقريبا كل شيء يذكر بالحرب العالمية الأولى. فبالنهاية وصف لينين هذه الحرب بأنها "إمبريالية"، و"قيصرية" (نسبة للقياصرة)، و"ضد الشعب". فالحرب تشوه صورة النصر البطولي للثورة الاشتراكية العالمية. وفي وقت لاحق، غطت الفظائع التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية على كل الذكريات المتبقية من الحرب الأولى.
بقي الأمر هكذا حتى منتصف الثمانينات، وقتها سُمح بالتطرق للحرب العالمية الأولى مرة أخرى، وذلك مع تولي ميخائيل غورباتشوف مقاليد السلطة وإطلاقه لسياسة "البيريسترويكا" الشهيرة؛ سياسة إعادة الهيكلة والبناء في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الرياح غير المتوقعة هزت الذاكرة الجماعية. والآن يسمح بتذكر كل شيء حاول الحزب الشيوعي أن يمحوه من ذاكرة الناس. الآن صار بالإمكان تذكر ضحايا "غولاغ" (معسكرات العمل في سيبيريا) في عهد ستالين، وكذلك تذكر المجاعة الكبيرة في الثلاثينات، وأيضا تذكر أبطال الحرب العالمية الأولى. وهكذا تم في أواخر عام 1980 نصب صليب خشبي كبير في حديقة طفولتي بجوار محطة "سوكول" للمترو في موسكو، لتخليد ذكرى ضحايا الحرب العالمية الأولى.
المؤرخون يطرحون أسئلة راهنة
تلك المقبرة هي مجرد مثال واحد على قمع الذاكرة. ففي الكتب، على سبيل المثال، لم يتم التطرق للحرب إلا بسطحية وعلى أنها مجرد "سبب عملاق عجل باندلاع الثورة"، وفقا لرأي ايرينا زورافسكايا، من المتحف التاريخي في موسكو، في حديث لـDW. وأيضا في مجال البحث العلمي تم تجاهل الحرب العالمية الأولى خلال الحقبة السوفياتية. ولم يتغير الأمر إلا في السنوات القليلة الماضية، حيث بدأ في روسيا نشر كتب عن تلك الحرب. "هذه هي الطريقة لاستعادة ذاكرتنا التاريخية"، تقول زورافسكايا.
واحد من هذه الكتب الجديدة كتبه أناتولي أوتكين، بعنوان "الحرب العالمية الأولى" ونشر في عام 2013. المؤرخ الروسي الشهير مقتنع بشيء واحد: أن روسيا فشلت في الاختبار عام 1914. فلو تحقق انتصار مشترك إلى جانب دول الوفاق لارتبطت روسيا بأوروبا بقوة، ويعلل أوتكين قائلا: "جنبا إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا كان بإمكان روسيا تحديد مستقبل أوروبا". الانسحاب الروسي المبكر من الحرب، بمعاهدة السلام المنفصلة مع ألمانيا في عام 1917، نزع أي سلطة من الطبقة الروسية الصغيرة ذات التوجه الأوروبي.
وهكذا تولت مقاليد الأمور تلك الجماهير التي لا تكترث أبدا بالغرب وقيمه. هؤلاء الناس، بحسب أوتكين، ربطوا أوروبا بصورة واحدة فقط: رشاش ألماني يطلق النار عشوائيا على الروس. وهكذا بقي الاتحاد بين روسيا وأوروبا مستحيلا. "ومن يدري ما إذا كانت الفرصة ستتاح يوما ما لذلك الاتحاد"، بحسب أوتكين.
هذا الكتاب يبدو مواكبا تماما للأحداث الراهنة: فبعد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، والوضع المتوتر حاليا في أوكرانيا، وعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد موسكو، وطرد روسيا من مجموعة الثماني، تصبح روسيا في وضع يجعلها بعيدة مرة أخرى عن أوروبا.
تخليد الذكرى في المتحف وفي السينما
الذكرى المئوية لاندلاع الحرب تشكل مناسبة استثنائية في روسيا، تقام فيها سلسلة كاملة من الفعاليات الرسمية وغير الرسمية. فيلم "كتيبة الموت" مثلا، ينتظر أن يكون الحدث الأهم سينمائيا في روسيا خلال الصيف المقبل. يروي الفيلم قصة حقيقية عن كتيبة نسائية في الجيش الروسي، كانت تحرض الرجال الذين أنهكتهم الحرب في الجبهة وتشحذ هممهم لينفذوا أعمالا بطولية. تمويل الفيلم المكلف جدا جاء بنسبة كبيرة من الحكومة. ومن المقرر أن يقام العرض العالمي الأول للفيلم في الأول من أغسطس/ آب. وهو اليوم الذي أعلن فيه القيصر الألماني فيلهيلم الثاني الحرب على روسيا في عام 1914.
كذلك سيشهد الأول من أغسطس/ آب إعادة افتتاح متحف الحرب العالمية الأولى في مدينة بوشكين. والمتحف التاريخي في موسكو سيقيم بدروه في الصيف معرضين فنيين عن الحرب.
ومنذ عام 2013، صار الأول من أغسطس/ آب مناسبة رسمية في روسيا لإحياء ذكرى ضحايا الحرب العالمية الأولى. وتحاول روسيا الآن رأب الصدع في تاريخها، ولكن ذلك لن يكون سهلا في بلد كان التاريخ فيه دائما تابعا للإيديولوجيا. وبالتأكيد لن يتغير الأمر بسرعة. ولكن هناك أمر يمكن الآن الجزم به، هو أن الاهتمام كبير والذكريات بدأت تعود.
في حديقة طفولتي شاهدت في الأول من أغسطس 2004، بمناسبة مرور 90 عاما على بداية تلك الحرب، إزاحة الستار عن نصب تذكاري كبير. فقط في ذلك العام اكتشفت الأمر ...