يوميات سورية ـ جولة في سوق شعبية..من لم يمت بالقصف مات فقرا
١٨ أكتوبر ٢٠١٢من لم يمت بالقصف مات بفقره والمواطن هو الخاسر الأكبر لطالما دأبت ربات البيوت في دمشق على تخزين الخضراوات والفواكه في الصيف، وهو ما يسميه الدمشقيون "بالمونة" بغية استغلال انخفاض أسعارها في الموسم الصيفي واستثمار ذلك في المطبخ الشتوي. ويعتبر هذا السلوك دليلا على حنكة المرأة وقدرتها على إدارة المنزل بطريقة جيدة. بيد أن هذا العام يحمل طابعاً مختلفاً عما ألفه السوريون سابقاً بعد اضطرار أغلبية العائلات المتوسطة والفقيرة، التي مازالت في منازلها ولم تضطر للنزوح بسبب عمليات القصف والمعارك، إلى تخفيض المونة إلى النصف تقريباً نتيجة موجة الغلاء السائدة في الأسواق السورية عامة وفي دمشق خاصة. ليس هذا وحسب، بل باتت عملية تخزين المونة نوعا من الترف والبذخ ومن كماليات الأسرة التي من الممكن الاستغناء عنها بسبب تشابه غلاء الأسعار للخضراوات والفواكه في موسمها مع بقية فصول السنة.
الكثير من النساء الدمشقيات، ومن بينهم والدتي، أصبحن يقتنعن بوجهة النظر هذه، إذ أصبح موضوع الغلاء هو الحديث الأبرز الذي يدور بين ربات البيوت في العاصمة، وخصوصا في الأحياء التي لم تنل نصيبا من القصف سوى ما يرد إليها من أصوات القذائف التي تنهال على الأحياء الساخنة الأخرى في أطراف دمشق. فالأزمة في سوريا التي دخلت شهرها التاسع بعد السنة ألقت بثقلها على الجميع كل في مكانه وكل في داره وامتدت لتؤثر على مختلف نواحي حياة الأسرة السورية وتستهدف قوتها اليومي.
إلا أن جارتنا أم خالد، التي جاوزت الستين من عمرها لم تكن تقتنع بهذا المنطق في الحديث الذي كان دائرا بينها وبين والدتي حول الغلاء وتأثيره على مونة البيت فالأمر بالنسبة إليها هو بمثابة عمل روتيني ترعرعت عليه منذ صغرها. ولم تكتف أم خالد بإقناع أمي بوجهة نظرها بل كانت ضريبة هذا الحديث أن أجبرتني على الذهاب معها إلى السوق لشراء بعض المونة لتثبت أن الأمور مازالت على حالها ولتعلمني أسليب التسوق بحجة أني أمثل الجيل المدلل الذي يحتاج إلى هذه الفنون. وافقت على الفور رغم أني كنت أعرف أن السبب المبطن من وراء ذلك هو مساعدتها في حمل الخضار والفواكه.
كانت وجهتنا الأساسية سوق"باب سريجة " الشعبي المعروف الذي يقع في قلب العاصمة دمشق، في جزئها القديم. ويطلق الدمشقيون على هذه السوق "باب الفقراء" وذلك لاشتهارها بانخفاض أسعار البضاعة التي تقدمها المحال التجارية والبسطات المنتشرة في هذه السوق بما يختلف تماما عن بقية الأسواق الأخرى.
كان مشهد السوق يبعث على الحياة، حيث تتميز هذه السوق بألوان البضائع الزاهية والأنفاس الزكية التي تنبعث من المحال التجارية والبسطات التي اصطفت في السوق وتخصصت في بيع المواد الغذائية وأهمها الخضار والفاكهة والمخللات واللحوم والأجبان والألبان والزيتون بأنواعه، فيما تخصص بعضها الآخر في بيع وتحضير معظم أنواع الحلويات الدمشقية المعروفة. كما أنستنا أصوات الباعة، وهي تنادي على بضائعها وتدلل عليها بصوت مرتفع، للحظة بأن الأزمة في سوريا قد مرت من هنا، من هذه السوق. إلا أن بسطة الخضراوات الأولى التي توقفنا عندها لشراء بعض الحاجيات أعادتنا إلى واقع الغلاء والأزمة، وذلك بعد أن أخذت أم خالد تسأل عن الأسعار و تستنكر بلهجتها الشامية القديمة ارتفاعها الذي وصل إلى الضعفين تقريبا عما كانت عليه في السابق.
أما البائع المسكين، الذي ضاق ذرعا باستنكار زبائنه للغلاء، إذ لم تكن أم خالد بالطبع الوحيدة المستاءة من الارتفاع الجنوني الذي طرأ على الأسعار، فأخذ يبرر بصوت مرتفع "يا جماعة نحنا ما دخلنا، نحنا من وين منجيب غراضنا غير من الريف والمحافظات؟ هالمناطق كلها اشتباكات وقصف وما عاد في فلاحين عم يزرعوا ولا في طريق لتوصيل البضاعة". لم يكن البائع يريد أن يقطع حديثه للزبائن عن سبب ارتفاع الأسعار الجنوني، إلا أن ظهور أحد عناصر الأمن الذين يتجولون في السوق باستمرار للاطمئنان على أن الأوضاع الأمنية في السوق تمر على ما يرام واقترابه من البسطة كان كفيلا بجعل الرجل يخرس تماما.
جارتنا أم خالد فقدت حماستها على الفور ونسيت كل ما قالته لأمي، إذ لم تنتبه هذه السيدة المخضرمة لارتفاع الأسعار فحسب بل كان النقص الحاد في المواد وقلة البضائع المعروضة من أكثر الأمور التي كانت تؤرقها، فيما يبرر أصحاب المحلات ذلك بأسباب كثيرة أهمها تدهور الوضع الأمني بشكل متسارع والعقوبات التي فرضت على الأسواق السورية، وإغلاق بعض المنشآت الصناعية لعدم توفر المواد الأساسية الداخلة في صناعتها، وعدم وجود مشتقات نفطية كالمازوت والبنزين، إضافة لانقطاع التيار الكهربائي في الفترة الماضية لساعات طويلة وصلت إلى أكثر من 7 ساعات يوميا واحتكار التجار الكبار للبضائع المتبقية وبيعها بأضعاف الأسعار.
ليست المواد الغذائية وحدها هي التي تأثرت بارتفاع الأسعار بل شمل ذلك أيضا مختلف المواد الاستهلاكية من ألبسة وأدوات كهربائية وقرطاسية حيث يقول السيد طارق صاحب إحدى محلات الألبسة "معركة حلب تؤثر على القطاع الصناعي بشكل كبير ،سواء في شراء المواد الأولية أو التصنيع أو حتى البيع ،فبعد أن كنت أتعامل مع عشرة مصانع من مدينة حلب لم يتبق منها سوى اثنان فقط أما الباقي فتعرضوا للحرق والقصف، وتكلفة البضائع التي كانت تصنع في مدينة حلب أرخص بكثير من البضائع التي تصنع في دمشق".
استمرت الجولة في السوق لمدة ساعتين تقريبا لم تنقطع خلالها جارتنا أم خالد عن إطلاق عبارات الحسرة والاستياء على خيرات الشام العديدة والتي أصبحت الآن بمتناول الأغنياء فقط وقليلا ما هم، إذ استمرت بترديد عبارة "ما بقي رخيص غير البني آدم".