"هجرة علاجية": مغامرة ركوب البحر لهزيمة السرطان
٢٩ أغسطس ٢٠٢٣يقضي محمد مطيراوي ساعات طويلة في النوم على سريره بمستشفى "باولو جياكوني" في مدينة بالارمو بصقلية. يأمل والده بلقاسم الذي يرافقه في الغرفة أن تكلل الرحلة الخطرة التي قطعاها عبر البحر المتوسط بشفاء ابنه من مرض السرطان.
مثل كثير من التونسيين سلك بلقاسم الخيار الأخير لإنقاذ ابنه بعد استنفاد فرص علاجه في مستشفيات تونس وتحديداً في مدينة القيروان التاريخية التي ينحدر منها.
عندما بدأ المرض يتسلل إلى دماغ محمد في 2017 كانت السلطات قد أعلنت آنذاك عن مشروع مستشفى "الملك سلمان" بتمويل من المملكة السعودية ليكون وجهة صحية للآلاف من المرضى في القيروان وفي المدن المجاورة، لكن بعد ست سنوات لا يزال المستشفى مجرد حلم.
رافق مشروع المدينة الصحية في القيروان شعارات الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيد وأغلب خطاباته بشأن مشاريع المستقبل بعد صعوده إلى السلطة في 2019.
شاب يذوي أمام عيون ذويه
يروي الأب بلقاسم مطيراوي من المستشفى الايطالي لـDW عربية أن علامات التعب والإجهاد والمشي المتعثر مع حالات فقدان التوازن، بدأت تظهر على محمد منذ 2017 ومنذ ذلك التاريخ بدأت حالته تسوء أكثر فأكثر.
ذهبت عمليات التشخيص الأولى في المستشفى المحلي إلى تحديد متاعب في العين وانتهى الأمر بتثبيت نظارات لمحمد لكنها زادت لاحقاً من أوجاعه في الرأس.
يقول الأب بلقاسم وهو يستحضر تلك الأيام الصعبة: "أخذت رجلاه تصطكان بعضها ببعض، وأخذت حالته تتدهور أمام أعيننا".
بعد إجراء المزيد من الفحوصات، التي لم يكن الحصول عليها إلا بشق الأنفس، "قرر الأطباء في مستشفى سهلول ولاية سوسة (على الساحل الشرقي) إخضاعه على الفور لتدخل جراحي عاجل. كانت حالته حرجة وتنبئ بتطور خطير"، يتابع بلقاسم.
لم يكن بلقاسم يدري بأن العملية الجراحية لن تضع نهاية لرحلة العذاب، بل فقط بداية الجزء الثاني من السباق ضد الزمن داخل أروقة المستشفيات ومكاتب الإدارة بجيوب خاوية ودون ضمان اجتماعي.
بعد جهد طويل، أجرى الأطباء لمحمد عملية أولى لوضع لولب في الدماغ متصل بأنبوب بلاستيكي لين لإزالة التعفنات وجعلها تنساب مع البول عبر المجاري، لكن بعد فترة ترك اللولب مضاعفات على صحة محمد بسبب وجود انسداد فاستبدل بلولب آخر في عملية ثانية.
وبسبب النقص في الأدوية بقي الجرح مفتوحاً بعد العملية واضطر الممرضون إلى استخدام الضمادات لشفط الإفرازات. وفي الأثناء كانت المواعيد المتاحة للمتابعة الصحية متباعدة في المستشفى.
قرار الهجرة
يقول بلقاسم بمرارة "فقد محمد جزء كبير من بصره. كان يموت ببطء أمامي. فكرت أكثر من مرة في الانتحار، ولم يعد أي شيء يعنيني في الوجود. اتخذت قراري لإنقاذ محمد (...) لم يعد هناك خيار آخر".
حتى نهاية شهر تموز/يوليو وقبل رحلة مطيراوي مع ابنه وصل أكثر من ستة آلاف مهاجر تونسي غير نظامي إلى الأراضي الإيطالية من بين عدة آلاف من اليائسين انطلقوا من سواحل البلاد هذا العام، ولا سيما من دول إفريقيا جنوب الصحراء.
وحتى مذكرة التفاهم، التي تم توقيعها بين تونس والاتحاد الأوروبي في 16 تموز/يوليو 2023 للحد من التدفق الكبير للمهاجرين، لم تحل دون وصول المزيد من المهاجرين إلى الجزر الإيطالية. ووفق بيانات وزارة الداخلية الايطالية، بلغ عدد المهاجرين غير النظاميين الذي وصلوا إيطاليا خلال خمس أسابيع قبل توقيع المذكرة أكثر من 17 ألفاً بينما وصل في نفس الفترة التي تلت التوقيع حوالي 24 ألف إنسان.
ليس استثناء
ولا يعد محمد مطيراوي حالة خاصة، إذ خاطر قبله الكثير من حاملي الأمراض المستعصية والمزمنة، بحياتهم عبر البحر من أجل العلاج وأملاً في حياة أفضل داخل الاتحاد الأوروبي.
قبل عام هاجرت أسرة صياد تونسي تتكون من 7 أفراد من منطقة الشابة بالمهدية إلى إيطاليا، بحثاً عن ظروف أفضل لتأمين العلاج اللازم لطفلتين لديهما إعاقة حركية.
وفي المقابل فشلت عائلة مبروكة حويجي الفقيرة في الوصول إلى لامبيدوزا، وأفشل خفر السواحل التونسي محاولتين ورد العائلة إلى أرض الواقع في تونس.
بيد أن الحظ حالف بلقاسم المطيراوي الذي تمكن في البداية، وبمساعدة المتبرعين، من جمع المبلغ المطلوب من المهربين، لكنه تعرض لعملية احتيال ونصب، ما أدى لخسارته ما يناهز 14000 دينار (4.5 ألف دولار أمريكي). مع ذلك عاود الكرة ثانية واستطاع تجميع مبلغ أقل يقدر بـ 10000 دينار تونسي. أقدمت زوجته على سلفة لتأمين نصفه وهي مطالبة بسداده أقساطاً رغم أنها لا تملك دخلاً منتظماً، على حد قوله.
رحلة محفوفة بالمخاطر
لم يكن الطريق البحري إلى الجزيرة الصغيرة مفروشاً بالورود بلا شك، فالمنظمة الدولية للهجرة تصنف المنطقة الوسطى للبحر الأبيض المتوسط من أخطر طرق الهجرة. في هذه المنطقة فقد أكثر من 22 ألف و200 إنسان منذ 2014، من بينهم 2264 هذا العام وحتى الأسبوع الأخير من شهر آب/أغسطس، وفق بيانات برنامج "مهاجرون مفقودون" الذي يتبع المنظمة الدولية للهجرة.
على الرغم من الخطورة البالغة لظروف الرحلة نجح بلقاسم وابنه المريض في الوصول إلى لامبيدوزا، لكن ظلت آثاراً منها عالقة في ذهن بلقاسم كما رواها لـDW عربية قائلاً: "شاهدنا الجثث تطفو في البحر. كان مشهداً مروعاً وكنا معرضين إلى المصير ذاته لكننا تعلقنا بالأمل في الحياة".
نقل بلقاسم وابنه بعد ذلك عبر طائرة هيلوكوبتر إلى مستشفى "باولو جياكوني" في بالارمو بجزيرة صقلية حيث أجريت له كشوفات دقيقة من الصفر. يقول بلقاسم أن وضع ابنه مستقر في المستشفى لكن هناك مشكلة طارئة حيث يعاني من كسر قديم في رجله وبدأ يشعر بأوجاع مبرحة بسبب الحديد الداعم. يتعين على الأطباء نزعه وهم يتجهزون لذلك.
أطباء مهرة في بنية منهارة
على مدى عقود بعد بناء دولة الاستقلال كان ينظر إلى تونس كأحد أبرز الدول في المنطقة العربية وحوض المتوسط في تصدير الكوادر المتخصصة في الطب إلى دول الاتحاد الأوروبي لا سيما ألمانيا وفرنسا، وفي امتلاك بنية متماسكة للقطاع مكنتها من الصمود في فترة جائحة كورونا بالحد الأدنى من التجهيزات والإمكانيات.
ولكن ولاية القيروان التي تضم أكثر من نصف مليون ساكن ومناطق أخرى داخلية، ظلت تعاني من تدني الخدمات مقارنة بمدن الساحل والعاصمة، وهو ما أكدته سوسن جعدي الناشطة في القيروان والعضو في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في حديثها لـDW عربية. وتضيف جعدي في إفادتها "هناك نقص في المعدات الطبية وفي الموارد البشرية من أطباء وممرضين".
في تقدير الخبراء فإن تشييد مستشفى جديد وعصري كان سيحل مشاكل كبرى مرتبطة بالصحة في القيروان والمدن المجاورة، لكن هذا يرتبط أيضاً بحل معضلة شبكة المواصلات ومدى قدرة الدولة على توفير موازنة كافية لتوظيف المزيد من الأطباء.
السياسة أمرضت الصحة
مثل قطاعات عمومية أخرى دفع القطاع الصحي كلفة الأزمة المالية التي تعصف بخزينة الدولة منذ سنوات والتي دفعت السلطة إلى إصدار قرار بتعليق التوظيف في المؤسسات العمومية ومن بينها المستشفيات منذ العام 2014. ألقى هذا بظلاله على الخدمات الصحية بجانب النقص في التجهيزات وفقدان الكثير من الأدوية لأمراض مزمنة وحساسة في الصيدليات العمومية وتعطل برامج صيانة المستشفيات المتداعية.
ومن نتائج ذلك كما يشير منذر الونيسي الطبيب ورئيس قسم بمستشفى "شارل نيكول" بالعاصمة ورئيس حركة النهضة الإسلامية بالنيابة (بسبب تواجد زعيم الحركة راشد الغنوشي بالسجن)، أن الكثير من المستشفيات العمومية أصبحت تعاني من تعطل كامل في بعض الأقسام ومن تردي الخدمات بشكل عام.
كما يعترف الونيسي في حديثه مع DW عربية بأن الحكومات بعد 2011 والتي كانت حركة النهضة شريكة فيها، تتقاسم الأخطاء لجهة أن سياسات التوظيف كانت عشوائية ما تسبب في ارتفاع كلفة الأجور، ولم تكن موجهة لحماية قطاعات حيوية مثل الصحة، فضلاً عن أن الخصومات الإيديولوجية في البرلمان (المنحل) عطلت عمليات الإصلاح.
ولا يستثني الطبيب والسياسي المعارض أخطاء السلطة الحالية في مفاقمة الوضع الصعب لقطاع الصحة العمومية، بسبب ما يراه تركيزاً على "المشاغل السياسية الصرفة" في ظل النزاع القائم بين الرئيس قيس سعيد والمعارضة.
"الدولة تخلت عن مسؤولياتها"
تعلق الناشطة سوسن جعدي لـDW عربية: "لقد تخلت الدولة عن دورها في توفير الرعاية منذ سنوات طويلة".
بالنسبة لبلقاسم مطيراوي الذي قضى سنوات طويلة يعيش مع زوجته وأبنائه الأربعة في مرآب من دون شبكة مياه ولا تيار كهربائي، لم يتردد في إعلان قراره من مستشفى بالارمو لـDW عربية: "انتهت رحلتي في تونس وفي القيروان. الآن سنبقى أنا وابني هنا نصارع معاً إلى آخر رمق. آمل أن يكون باقي أفراد عائلتي معي. سأسعى لجلبهم بالتأكيد ولن أتخلى عنهم، الغذاء هناك مفقود والمحسوبية تضرب أطنابها. الحق ضاع في بلدي".
يأمل الآن بلقاسم أن يربح معركته مع ابنه ضد السرطان بعد أن نجيا بحياتهما من ظلمات البحر.
تونس – طارق القيزاني