مخيَّم دوميز للاجئين السوريين بشمال العراق ... المحطة الأخيرة
١٠ أكتوبر ٢٠١٢غبار في كلِّ مكان ولا شيء غير الغبار؛ هذا أوَّل ما يشاهده رانجين عندما ينهض في الصباح وينظر من الخيمة، وآخر شيء يحرق عينيه في المساء قبل أن يذهب للنوم على فرشة بسيطة. وفي صباح هذا اليوم أيضًا حوَّل الغبار في مخيَّم دوميز للاجئين هواء المخيَّم مع كلِّ هبّة ريح إلى سحابة ترابية. وفي السماء تشع أشعة الشمس متوهجة وحتى في مثل هذا الوقت من السنة، في أوَّل شهر أيلول/سبتمبر. يبدو المشهد هنا كما لو أنَّ الشمس تشعل الغبار فوق جلودنا. وهذا الغبار رمل ناعم يتفتت إلى أجزاء صغيرة؛ مثلما تفتَّت حياة رانجين القديمة وماضيه، حيث كان يعمل خياطًا في دمشق، ولم يبقى من حياته إلاَّ القليل أيضًا.
يعتبر مخيَّم دوميز للاجئين السوريين الواقع في إقليم كردستان في شمال العراق مكانًا بائسًا تصطف فيه خيم متجاورة الواحدة بجانب الأخرى ويشاهد عليها اسم "المفوضية السامية للأمم المتَّحدة لشؤون اللاجئين" مكتوبًا بكتابة أصبحت باهتة. وفي هذه الخيم يجلس الرجال والنساء والأطفال باحثين لهم عن مأوى يقيهم من الشمس ولا يعرفون ماذا تخفي الحياة لهم. دفعت أعمال العنف في سوريا العديد من الأكراد إلى بلدة دوميز، حيث نشأت هنا في الأسابيع الأخيرة مدينة صغيرة للاجئين السوريين تزداد مساحتها يومًا بعد يوم.
ويتجوَّل في المكان صبية يبيعون السجائر وبطاقات الهاتف وينادون بأصوات مرتفعة لترويج بضائعهم. ومن حين لآخر تحلِّق طائرة هليكوبتر فوق المنطقة، وتدخل عبر بوَّابة المخيَّم شاحنات تجلب معها أكثر شيء مفقود هنا، أي المياه الصالحة للشرب. لقد أراد أحد ما أن يعمل عملاً جيِّدًا من أجل الأطفال وأحضر إلى مخيَّم اللاجئين لعبتين - أرجوحة وزحليقة. وهذه الزحليقة مغطاة بالرمل والأرجوحة مهترئة من الصدأ. وربما كان يريد التخلص من خردته القديمة.
ورنجين شاب في الخامسة والعشرين من عمره متين البنية وله لحية على الموضة - حاول في الصباح الحصول على شيء يأكله أو على بعض البطانيَّات من المكتب المبني من حاويات شحن والموجود عند مدخل المخيَّم. ولكن هذا الشباب الكردي لم ينجح في الحصول على أي شيء، مثل الرجال الآخرين الذين يقفون هنا بالجوار وتبدو جوههم نحيلة وعيونهم متعبة وقد وضع بعضهم المناشف فوق رؤوسهم لتقيهم من أشعة الشمس.
هاربون من شبيحة الأسد
وأمين رجل ذو بنية قوية وصوت جهوري، يمشي على عكازين بسبب شلل في ساقه ويقول: "هربنا من نظام الأسد. النظام يقتل الجميع، يقتل جميع السوريين العرب والأكراد". ويرتدي أمين قميصًا يشاهد عليه علم ألمانيا. وعندما أراد رانجين العودة إلى الخيمة التي تم وضعه فيها مع عائلته، ظهرت فجأة من العدم امرأة مسنة كان في عينيها دموع، وقالت بصوت منكسر: "لا أحد يساعدنا ولا أحد يعطينا أي شيء. نحن ثمانية أشخاص ولا نملك أي شيء. وأنا موجودة هنا منذ أربعة أيَّام وما أزال أعيش حتى الآن في الشارع". وبعد ذلك لم تستطع حبس دموعها، ثم استدارت وذهبت.
يتسلق رانجين فوق حاجز رملي ويسير متجهًا إلى خيمته. كان يوجد في السابق على بعد بضعة أمتار ملعب لكرة القدم لم يبقى منه سوى عارضتي الهدف. ويجلس في خيمة رانجين كلّ من زوجته وابنته التي يبلغ عمرها عامين وأقاربه الآخرين الذين هربوا معه. ولا تتسع الخمية إلاَّ لثلاث فرشات - ثلاث فرشات لستة أشخاص بالغين ولثلاثة أطفال صغار. كان رانجين يسكن مع أسرته في ضواحي دمشق. وفي البداية جاء الثوَّار وتمركزوا في الحي ثم أرسل لنا النظام الطائرات والقنابل، يقول رانجين هذه العبارات ويضيف بصوت مبحوح: "قصفوا منزلنا وهدموه". وفي هذه الغارة توفي شقيقه الذي كان مجرَّد شخص مدني. "واضطررنا جميعنا إلى ترك كلِّ شيء خلفنا". وهربوا بالسيارة حتى الحدود في شمال سوريا، ومن هناك تابعوا رحلتهم سيرًا على الأقدام. وعلى الجانب العراقي من الحدود ساعدهم أفراد البيشمركة. وفي مخيَّم دوميز يذكر اللاجئون المقاتلين الأكراد في شمال العراق دائمًا بالخير.
في وسط الفقر والبؤس
ولم يكن رانجين وأقاربه يأملون إيجاد الأمان فقط في مخيَّم دوميز، بل كانوا يأملون أيضًا العثور على المساعدة. ويقول رانجين قد يكونوا الآن في مكان آمن ولكنهم بحاجة إلى المساعدة. لا توجد في المخيَّم أماكن للاستحمام ودورات مياه. وهم الآن موجودون هنا منذ أسبوع، لم يغتسلوا ولم يأكلوا شيئًا لعدة أيَّام. ويضيف: "أطفالنا يعانون كثيرًا من الجوع ولا يوجد لدينا طعام ولا مال". وثم يخرج محفظته من جيبه ليرينا أنَّه لم يعد يملك أي شيء. ولا يوجد شيء في محفظته سوى بعض الأوارق النقدية السورية.
ويمشي بضع خطوات إلى خيمة ثانية تم تخصيصها في الأصل لأسرته. وهذه الخيمة تتكون من خرق فقط، وعندما فتحها خرجت منها رائحة كريهة جعلتنا نحبس أنفاسنا. لا أحد يستطيع العيش في هذه الخيمة.
ومن الصعب لنا أن نفهم لماذا لا تستطيع منظمة كبيرة مثل المفوضية السامية للأمم المتَّحدة لشؤون اللاجئين تأمين احتياجات اللاجئين. هل يكمن السبب في نقص المال أم في نقص الطواقم والإرادة؟ وهذه الأسئلة ظلت في هذه الجمعة من دون إجابة وعلى أية حال من جانب المفوضية السامية للأمم المتَّحدة لشؤون اللاجئين. والآن لدينا عطلة نهاية الأسبوع ومكتب المفوضية مغلق. وبغض النظر عن هذا البؤس والفقر فإنَّ رانجين غاضب من هذا الوضع ويقول: "كنا نعتقد أن الأمم المتَّحدة ستساعدنا، ولكنها لا تقوم بعملها". لا توجد أجوبة في هذا اليوم إلاَّ على الأقل لدى عبد الله حمو الذي عاد لتوه من جولة في المخيَّم إلى مكتبه وجلس خلف طاولة تغطيها طبقة خفيفة من الغبار. والمكان هنا داخل حاوية شحن مظلم وكذلك مكيَّف الهواء صامت لا يعمل بسبب انقطاع التيار.
ويقول عبد الله حمو رئيس دائرة الهجرة في حكومة إقليم كردستان لم تكن توجد في المخيَّم حتى وقت قريب أية مشكلات: "كان كلّ شيء يسير بشكل جيد، فقد كانت لدينا خطة". ومن ثم جاء شهر رمضان وزدادت معه أعمال العنف في سوريا، ونتيجة لذلك ارتفع عدد اللاجئين بشكل كبير. يأخذ عبد الله حمو ورقة يرسم عليها عدة أرقام وأسهم تشير جميعها إلى أعلى؛ ويقول حتى منتصف شهر آب/أغسطس كان يأتي يوميًا إلى مخيَّم دوميز خمسون سوريًا، ثم صار يأتينا أكثر من مائتي شخص في اليوم. ويضيف عبد الله حمو مشتكيًا: "ارتفع هذا العدد حاليًا إلى سبعمائة شخص في كلِّ يوم. ولذلك فقد خرج الوضع عن سيطرتنا".
يسير عبد الله حمو في الشارع ويذهب إلى الجزء الذي تم توسيعه قليلاً في المخيَّم. وهنا في هذا الجزء تم بناء بيوت من الطوب الإسمنتي. وعن هذه البيوت يقول حمو إنَّ "جميعها مزوَّدة بمكان للاستحمام ومرحاض ومطبخ". وعلى الأرجح أنَّ هذه البيوت أفضل قليلاً من الخيام الضيِّقة، ولكنها أشبه بالحفر المظلمة. وعلى بعد عدة أمتار عن الطريق يقوم شخص بدق قضيب حديد في الأرض ليثبِّت عليه صحن استقبال للمحطات الفضائية. ومن الممكن أن يخلق التلفاز قليلاً من التغيير في الحياة المملة داخل المخيَّم.
تذمّر من الحكومة في بغداد
تجاذ سياسي في الأزمة السورية - على الرغم من أنَّ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قد أعلن رسميًا التزامه موقف الحياد، إلاَّ أنَّه يدعم نظام الأسد. وفي المقابل يحاول الرئيس الكردي مسعود بارزاني جعل نفسه زعيمًا للأكراد السوريين. وقبل أن يودّعنا حمو ويغادر أخذ يشتم الحكومة العراقية المركزية وقال: "هم لا يمنحوننا أية مساعدات وليس لديهم أي اهتمام بنا". وتشكِّل الأزمة السورية واحدة من العديد من نقاط الخلاف بين الحكومة في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل. وعلى الرغم من أنَّ الحكومة المركزية في بغداد برئاسة الشيعي نوري المالكي قد أعلنت رسميًا التزامها موقف الحياد، إلاَّ أنَّ هذه الحكومة تدعم نظام الأسد على الأقل بشكل سرّي. وتتَّهم كذلك بغض الطرف عن وصول شحنات الأسلحة من إيران إلى الأسد عبر المجال الجوي العراقي. وفي المقابل يحاول الرئيس الكردي مسعود بارزاني جعل نفسه زعيمًا للأكراد السوريين أيضًا. وفي نهاية شهر تموّز/يوليو الماضي اعترف في حوار أجري معه بتدريب الأكراد السوريين. وتحت رعايته انضمت أحزاب مختلفة إلى المجلس الوطني الكردي (KNC).
وفي الآونة الأخيرة نجح مسعود بارزاني في جعل المجلس الوطني الكردي وحزب الاتِّحاد الديمقراطي الذي يعدّ الفرع الكردي السوري لحزب العمال الكردستاني يسيران على خط مشترك. ويسيطر حزب الاتِّحاد الديمقراطي على بعض المناطق الحدودية السورية الممتدة على الحدود مع تركيا ويشتبه بتعاونه مع نطام الأسد. ويسعى بارزاني إلى توسيع نفوذه، ولذلك يتعيَّن إسقاط الأسد وتفكيك سوريا، وعندها ستكون الفرصة جيدة لتقوية حلم الأكراد في تكوين دولتهم الخاصة.
وأمام خيمة رانجين اجتمع بعض الرجال الذين كانوا يتناقشون وظهر أنَّ رأيهم واضح في مسعود بارزاني. وعندما مدحه أمين بأغنية قصيرة صفَّق له الجميع. يتحدَّث الرجال حول الاعتقالات التعسفية والتعذيب في دمشق. ويقول أحدهم إنَّ كلَّ شخص سنِّي وكردي يتم الاشتباه فيه ينتهي إلى السجن. ثم يروي لنا كيف كان معتقلاً مع أربعين رجلاً في زنزانة واحدة ولم يكن الحراس يطرحون أسئلة بل كانوا يوسعونهم ضربًا، وبعد أسبوعين عاد إلى البيت ولم يعد لديه طعام: ويقول: "تضاعفت في دمشق أسعار المواد الغذائية والبنزين أربعة أضعاف".
قناصة إيرانيون يستهدفون المنشقين
ويشتم هؤلاء الرجال النظام الإيراني الذي يقدِّم الدعم إلى طاغية الشام. ويتحدَّثون عن وجود قناصة إيرانيين لا يستهدفون فقط معارضي النظام، بل يضعون أيضًا أفراد القوَّات السورية تحت الضغط، ويستهدفون كلَّ من ينشق عن الجيش. ورانجين يؤيِّد الجيش السوري الحر الذي يريد إسقاط الدكتاتور بشار الأسد. غير أنَّ رانجين شخص واقعي ويقول إنَّ "الجيش الحر لا يمتلك الأسلحة الضرورية لمحاربة نظام الأسد".
لا أحد يعترض على كلامه عندما يطالب بالتدخل العسكري الأجنبي: "من دون الدعم الجوي للمعارضة لن يسقط النظام. يجب على الولايات المتَّحدة الأمريكية وأوروبا الحضور إلينا ومساعدتنا". وفي هذه الأثناء اتَّضح لرانجين أنَّ مخيَّم دوميز ليس إلاَّ المحطة الأخيرة التي استقر فيها الآن هو وعائلته، وربما يكون ذلك لأسابيع وربما لأشهر أو ربما حتى لسنين. وهكذا لا يبقى له سوى الأمل في إسقاط الدكتاتور. ويقول رانجين: "لن تتحسَّن الأوضاع في سوريا إلاَّ عندما يسقط بشار الأسد ونظامه. وإذا لم يحدث ذلك فالأفضل أن نموت هنا من أن نموت في سوريا على يد الأسد".
حقوق النشر: قنطرة 2012