قمة الخلافات الحادة تضع أوروبا على مفترق طرق
منذ رفض فرنسا وهولندا للدستور الأوروبي يشهد الاتحاد الأوروبي تحركات سياسية واسعة لاحتواء الأزمة التي نشأت عن ذلك والحيلولة دون من نشوب معركة مؤسساتية داخلية هي آخر ما تحتاجه أوروبا في وقت تتطلع فيه للعب دور أكبر على الساحة الدولية. وفي هذا السياق حاولت ألمانيا عبر تصريحات المستشار شرودر التوسط بين الأطراف المختلفة، وأعلنت عن استعدادها تقديم تنازلات بشأن حصص الميزانية العامة، كما دعت إلى الاستمرار في عملية الاستفتاء على تصديق الدستور الموحد لجمع الخبرات.
وفي ظل هذه الظروف جاء التحرك البريطاني في اتجاه آخر. فقد مهد رئيس الوزراء توني بلير للقمة الأوروبية الحالية بجولة شملت موسكو وبرلين ولوكسمبورغ وباريس، قام فيها بإعلان الموقف البريطاني المتمثل في رفض إلغاء الامتياز الذي حصلت عليه بريطانيا سابقاً والقاضي بخفض مشاركتها في الميزانية الأوروبية. وعوضاً عن ذلك أعرب عن رغبة بريطانيا في مناقشة السياسة الزراعية المشتركة. وكان من اللافت تصريح بلير بأن المحور الألماني- الفرنسي مهم ولكنه لم يعد الوحيد وبالتالي "لم يعد من الممكن قيادة أوروبا كما في الماضي".
بريطانيا ستتسلم رئاسة الإتحاد الأوروبي بدءاً من يوليو/ تموز القادم، ومن المعروف أن الجزيرة البريطانية كانت تحتفظ دائماً بمسافة بينها وبين الإتحاد الأوروبي، وتتحفظ على الانخراط في الوحدة الأوروبية. ويعكس ذلك رفضها الانضمام إلى اتفاقية العملة الموحدة (اليورو)، وانتهاجها سياسة خارجية لا تلتزم بالخطوط العريضة لسياسة الإتحاد الأوروبي. على عكس ذلك انخرطت ألمانيا وفرنسا في المشروع الأوروبي بكل جدية، وكونتا القوة الدافعة للإتحاد سياسياً واقتصاديا. لذلك جاءت تصريحات بلير لتثير تساؤلات حول نوايا بريطانيا حيال أوروبا، فهل ستشهد الفترة القادمة نشاطاً بريطانياً تجاه أوروبا أم أن الأمر يتعلق بتعديل ميزان القوة الأوروبي الداخلي بحيث يسمح بنشوء قطب جديد أقرب إلى الولايات المتحدة بزعامة بريطانيا. ومن شأن ذلك ان يعيد إلى الأذهان نظرية "أوروبا القديمة" التي روجت لها الإدارة الأمريكية ابان التحضير للحرب على العراق.
الميزانية الصعبة
لا تبدو الإجابة على السؤال السابق بالأمر السهل، خاصة وأن القمة الحالية التي ستستمر لمدة يومين ستشهد مفاوضات شاقة دون التوصل إلى حلول. وسيكون الموضوع الرئيسي على جدول أعمال القمة بلا شك هو الميزانية العامة للإتحاد الأوروبي، حيث تتمحور معظم الخلافات الأوروبية. وقد أظهرت تصريحات الزعماء في الأيام الماضية مدى تصلب المواقف واتساع هوة الخلافات. ففي الوقت الذي يطالب فيه معظم أعضاء الإتحاد بمراجعة الامتياز البريطاني القاضي بخفض حصتها في الميزانية، ترفض بريطانيا ذلك رفضاً قاطعاً وتقترح مراجعة شاملة لمصاريف الإتحاد وخاصة في مجال دعم الزراعة. وهو الأمر الذي ترفضه فرنسا بشدة بسبب اعتماد مزارعيها على جزء كبير من هذا الدعم.
وقد صرح بلير بعد لقاءه بالرئيس الفرنسي شراك قائلا: "إن اللقاء مع الرئيس شيراك كان وديا ولكن طبعا هناك خلاف حاد واعتقد إنه من الصعب تخطيه" مشيرا إلى استمرار الحوار على المستوى الأوروبي. وأضاف بلير مبرراً رفضه استمرار العمل بالسياسة الزراعية المشتركة "إن الإتحاد الأوروبي ينفق في المجال الزراعي عشرة أضعاف ما ينفقه في مجال البحث أو الابتكارات الأخرى. اتفهم أن يرغب بلد ما في دعم زراعته، لكن ثمة مشكلة حين يقرر الاتحاد الأوروبي رصد 40% من موازنته في قطاع يمثل 2% من الوظائف". ومن ناحيته قال شيراك بحسب المتحدث الرسمي باسمه انه "في ظل وضع الأزمة السياسية التي تواجهها أوروبا، من المهم ألا نضيف مصاعب مالية إضافية، بل يتعين الوصول إلى اتفاق منطقي وعادل حتى يتحمل الكل حصته. الأوروبيون يودون أن يبدي المجلس في بروكسل روح التفاف ووحدة ويثبت قدرته على المضي قدما".
من ناحية أخرى تطالب الدول الست التي تدفع الحصة الأكبر من حجم الميزانية العامة بتحديد سقف حصتها بما قيمته 1 بالمائة من إجمالي الدخل المحلي لدول الإتحاد الأوروبي في الفترة من 2007 إلى 2013. في المقابل يقترح رئيس وزراء اللوكسمبورغ الذي تترأس بلاده الدورة الحالية للإتحاد رفع القيمة إلى 1,06 بالمائة، مما يعني فارقاً يقدر بنحو 200 مليار يورو. رغم ذلك يتوقع وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر نجاح القمة في الوصول إلى تسوية مناسبة في هذا الشأن.
أزمة الدستور الموحد
تعرض الإتحاد الأوروبي لأزمة كبيرة جراء الرفض الهولندي والفرنسي له. ورغم تصريحات كبار المسئولين في الإتحاد بأن مؤسساته ستبقى قادرة على العمل كالسابق، وأن رفض الدستور الموحد لن يخلق فراغاً قانونياً في الإتحاد، حيث أن مواده ما هي سوى توسيع للمواد التي نصت عليها الاتفاقيات الأوروبية السابقة مثل اتفاقية نيس المعمول بها حالياً، فمن الصعب تجاهل ظلال الشك التي بدأت تخيم على عملية الاندماج والتكامل بين دول الإتحاد الأوروبي.
وقد عكست التصريحات الأخيرة للحكومة الألمانية تغيراً في الموقف الألماني في هذا الشأن، فبعد أن كانت تدعو إلى إكمال عملية التصويت على الدستور في باقي دول الإتحاد دعا المتحدث الرسمي باسمها إلى ترك قرار الاستمرار في عملية التصويت إلى حكومات الدول المعنية، بحيث تقرر كل دولة على حدة إذا كان من المناسب الاستمرار في عملية الاستفتاء أم إرجاءها إذا ارتأت أن مصير الاستفتاء هو الرفض. وهو رأي يتماشى مع آراء رئيس المفوضية الأوروبية ورئيس الوزراء البريطاني والمتمثل في وجوب التوقف عن عملية الاستفتاء على الدستور والحاجة إلى أخذ فترة تأمل لبضعة شهور. كذلك جاء القرار الدينماركي والسويدي المتعلق بإرجاء الاستفتاء على الدستور الأوروبي متماشياً مع هذا الاتجاه، لذلك يرى المراقبون أن من الممكن إحراز تسوية مقبولة بين كافة الأطراف في هذا المجال.
وماذا عن تركيا؟
اتفق وزراء خارجية الاتحاد على أن بيان القمة سيذكر القرارات التي اتخذت في ديسمبر/ كانون الأول بشأن بدء محادثات الانضمام مع تركيا وكرواتيا التي كان مقرراً لها أن تبدأ في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول، لكن البيان لن يذكر أيا من الدولتين بالاسم أو يكرر التاريخ لتجنب إغضاب الناخبين المستاءين من خطط التوسيع. وذلك كما ظهر في الرفض الفرنسي والهولندي للدستور الموحد. من ناحيتها شعرت تركيا القلقة من معارضة داخل الاتحاد الأوروبي للمزيد من التوسع بالارتياح من هذا القرار.
وصرح سياسي تركي أمام وكالة رويترز قائلاً: "نحن قلقون بعض الشيء ومتوترون بعض الشيء بشأن الانقسامات داخل الاتحاد لكننا نركز على ما يتعين علينا عمله". يذكر أن مقاومة قبول انضمام تركيا الفقيرة نسبيا والتي تقطنها أغلبية مسلمة وذات معدل النمو السكاني المرتفع والتي يبلغ عدد سكانها 70 مليون نسمة كانت من العوامل التي يعتقد أنها تسببت في رفض الدستور الذي يهدف إلى ضمان عمل الاتحاد بكفاءة بعد توسعته.