قبور بلا شواهد .. من يهتم بهوية المهاجرين الغرقى؟
٨ أبريل ٢٠١٩"في الوطن كنا مدرجين على لائحة المفقودين. ولم يعرف آباؤنا فيما إذا كنا قد متنا أو مازلنا أحياء، وحرقة الألم في حالة المفقودين أشد منها في حالة الأموات"، هذا ما يقوله مغني راب جزائري في أغنية تحمل اسم "رحلة إلى سردينيا"، مشيراً فيها إلى معاناة الأهل عند انقطاع أخبار أبنائهم المهاجرين عبر البحر المتوسط للوصول إلى أوروبا.
في أواخر عام 2014، حصلت "مأساة" أمام أعين أفراد عائلة كانت تقضي إجازتها في جزيرة يونانية، فبينما كانوا يتناولون الطعام في أحد المطاعم المطلة على الشاطئ، شاهدوا جثة رجل جرفتها الأمواج إلى الشاطئ. ولأنهم لم يكونوا يعرفون ما يجب فعله، اتصلوا بصديقة لطلب المساعدة والمشورة.
كانت هذه الصديقة كاتريونا جارفيس، وهي قاضية بريطانية متقاعدة كانت تعمل على بناء مشروع جديد دفاعاً عن حقوق المهاجرين المفقودين والمتوفيين وعوائلهم. وبعد جهود بذلتها الناشطة في محاولة التعرف على الرجل، بمساعدة من النشطاء المحليين والأطباء، تم التحقق من هوية ذلك الشخص.
تقول جارفيس: "كان شاباً سورياً يبلغ من العمر 22 عاماً فقط. لقد كانت مأساة". وبعد ذلك تمكنت جارفيس من الوصول إلى عائلة الشاب المتوفي، والتي كانت تريد إعادة جثته إلى سوريا. لكن وبسبب الإجراءات البيروقراطية والتكاليف الكبيرة لنقل الجثة، دفنت الجثة في شمال اليونان. تقول جارفيس: "عائلته تعرف أين هو ويمكنها التقدم بطلب للحصول على التأشيرة من أجل زيارة قبره".
هذه الحادثة دفعت جارفيس إلى الانخراط بشكل أكبر في الدفاع عن حقوق عوائل الأشخاص الذين ماتوا على طريق الهجرة إلى أوروبا، كما تقول، خصوصاً بعد إدراكها وجود ثغرات كبيرة في قوانين تحديد هويات المهاجرين المفقودين أو المتوفين.
في عام 2015، بدأت الناشطة البريطانية بالعمل التطوعي في جزيرة ليسبوس اليونانية، حيث توفي العديد من المهاجرين في طريق الوصول إليها. تقول جارفيس: "كان الجميع يواجه صعوبات في كيفية التعامل مع ذلك. كان في الجزيرة مكان واحد لحفظ الجثث لا يكفي إلا لجثتين، بينما كان هناك حوالي 70 جثة بحاجة إلى العناية والإدارة. لم تعرف العائلات ما عليها أن تفعل".
جثث بدون أسماء
استطاعت جارفيس تأمين حاوية للتبريد ليتم استخدامها مكاناً مؤقتاً لحفظ الجثث. تقول المتطوعة البريطانية: "لازالت هناك في المستشفى، لكن آمل ألا يحتاجوا إلى استخدامها مرة أخرى".
وعلى الرغم من انخفاض عدد المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا، خاصة من تركيا إلى اليونان، إلا أن الموارد الكافية لرعاية جثث الموتى ومراعاة حقوق عوائلهم مازالت غير متوفرة.
بشكل عام هناك في جميع الدول إمكانيات لجمع وتحليل بيانات الأشخاص بعد وفاتهم، لكن فعالية ذلك تعتمد بشكل كبير على الدولة التي يتم فيها ذلك. ففي اليونان ينبغي إرسال عينات من الجثة إلى قسم شرطة الطب الشرعي والتي تقارنها ببياناتها الموجودة في قاعدة بيانات معقدة، لكن الإجراءات المتبعة قد تختلف عن بلدان أخرى. فعندما يتم أخذ الحمض النووي من الجسم للتحقق من وجود تطابق، تكون إمكانية تحديد هوية الشخص صعبة، وذلك بسبب تحديات أخرى تتعلق بعدم توفر بيانات كافية عن المتوفي، حيث لا يحمل الكثير من المهاجرين جوازات سفر أو أي وثائق أخرى.
وعندما يتعذر إيجاد تطابق لعينة من الحمض النووي، ينبغي تخزينها في قاعدة البيانات لأن ذلك قد يساعد في تحديد هوية الشخص في المستقبل، لكن لا يتم بشكل منظم. تقول جارفيس: "انعدام التواصل والتنسيق (...) يسبب للعوائل مشاكل كبيرة ويزيد من حزنهم".
التركيز على الأعداد وليس على الهويات
يفسر تعقيد وصعوبة تحديد هويات الضحايا حقيقة أن جمع بيانات المهاجرين المفقودين أو الموتى من قبل السلطات يركز بشكل أساسي على حساب أعداد الضحايا بدلاً من محاولة التعرف على هوياتهم والوصول إلى عوائلهم. تقول غنيس كالامارد، المقررة الأممية بشأن عمليات القتل خارج نطاق القضاء، إن غياب البيانات والمعرفة حول هويات المهاجرين الموتى: "واحدة من المآسي الكبرى التي لا توصف لهذه الكارثة".
والأهم من ذلك أن العوائل تعيش مأساة بانتظار معرفة مصير أبنائها. تقول جارفيس: "أنهم يريدون أن يعرفوا فيما إذا كانوا أحياء أو أموات"، وتضيف: "لا يمكن للأشخاص الحزن إذا كانوا لا يعرفون ما الذي حدث لهم".
عندما تحدث كارثة طبيعية أو في حالة الهجمات الإرهابية أو الحروب فهناك أطر عمل دولية تتعلق بحقوق الإنسان وكيفية التعامل مع عواقب هذه الحوادث، لتحديد هويات المفقودين والموتى وضمان احترام حقوق أهاليهم، والتزامات الدول في هذه الحوادث واضحة تماماً.
أما في حالة الوفيات أثناء الهجرة، فلا يوجد إطار قانوني من هذا القبيل، كما تختلف الإجراءات والقوانين من بلد لآخر. ورغم وجود بعض القوانين التي تقضي بمقاضاة الأفراد المسؤولين عن وفيات المهاجرين، كالمهربين مثلاً، فإن القليل من الجناة يقفون أمام العدالة، كما تقول غنيس كالامارد.
الجثث "تنتشر في جميع أنحاء صقلية"
تقول جورجيا ميرتو، الباحثة الميدانية في مشروع "مفقودي البحر المتوسط" إنه لا يوجد في إيطاليا شرط قانوني لتحديد هوية الشخص الذي توفي أثناء الهجرة. والمشروع الذي تعمل ضمنه ميرتو هو مشروع لبناء قاعدة بيانات تجمع أسماء اللاجئين الذين تم تحديدهم، كواحد من الجهود المنهجية الأولى في جميع بيانات اللاجئين الذين فقدوا في طريق الهجرة.
اليوم يتضمن عمل ميرتو تتبّع آثار الجثث في صقلية، وبسبب نقص الأماكن المخصصة لدفن المهاجرين وأماكن تخزين الجثث، فإن الجثث "تنتشر في جميع أنحاء الجزيرة"، كما تقول ميرتو.
وتضيف أنه غالباً ما يتم التعرف على الجثة بعد فترة طويلة من دفنها. وعندما تصل العائلة من أجل الجثة، كما تقول، من المحتمل أن يكون قد تم نقلها إلى مقبرة أخرى.
وتتابع ميرتو: "حتى الآن، لم أخفق أبداً في العثور على جثة ما". لكن وبدون مساعدتها فلن تستطيع معظم العوائل أن تعرف أماكن قبور أحبائها. وميرتو تستطيع القيام بهذا العمل فقط بسبب الدعم من المشاريع المؤقتة مثل "مفقودي البحر المتوسط"، و"التكاليف البشرية لمراقبة الحدود".
خطوة إلى الأمام
وقد أوصى مشروع "التكاليف البشرية لمراقبة الحدود" بإنشاء قاعدة بيانات مركزية للحصول على معلومات حول المهاجرين الموتى والمفقودين، والتي من شأنها أن تساعد في التعرف عليهم والوصول إلى عوائلهم. وجاءت مجموعة أخرى من التوصيات من جارفيس و"مشروع الحقوق الأخيرة" الذي تديره مع زميلها المحامي في مجال حقوق الإنسان، سيد بولتون. وتشمل هذه التوصيات دعوات للدول من أجل إنشاء كيان واحد مسؤول عن تنسيق الجهود المتعلقة بالمهاجرين المفقودين والمفقودين، وكذلك بناء قاعدة بيانات الحمض النووي.
في شهر أيار/ مايو الماضي، حظي مشروع جارفيس بمزيد من الدعم، حيث تم توقيع إعلان ميتيليني من قبل الكثير من الناس من جميع أنحاء العالم. وقد تم تبنيها الآن من قبل اللجنة الوطنية اليونانية لحقوق الإنسان، ما قد يكسبها المزيد من التأثير في الأوساط السياسية.
لكن أحد الأشياء الرئيسية التي يدعو إليها الإعلان، وهو زيادة جهود البحث والإنقاذ، تلقى ضربة قوية، بقرار الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي وقف إرسال السفن لعمليات الإنقاذ في البحر المتوسط في إطار عملية صوفيا. تحذر جارفيس من أنه مع قلة عدد السفن القادرة على إنقاذ الأحياء، فإن احتمال استعادة جثث المهاجرين أيضاً سيكون أقل، وتضيف: "حتى أن المزيد من الجثث ستختفي تحت الأمواج. ولن نعرف أبداً أنهم كانوا هنا".