علاء الأسواني: ..ماذا يفعل الرجل العظيم في دولة مستبدة؟
٢ أكتوبر ٢٠١٨حدث ذلك منذ خمسة وثلاثين عاما. كنت أدرس في الولايات المتحدة و اشتركت في مكتبة شيكاغو العامة حيث وجدت قسما كبيرا للأدب العربي ضم مؤلفات الدكتور جلال أمين. كنت قد قرأت مقالاته البديعة في جريدة الأهالي ثم عكفت على قراءة مؤلفاته فوجدتنى أمام كاتب عملاق بحق. كانت لديه قدرة فذة على تبسيط أصعب الأفكار واخراجها في اطار أدبي جميل كما أن أسلوبه البسيط المعبر كان يحمل عمقا انسانيا مؤثرا وسخرية راقية تبرز التناقضات في المجتمع المصري. ستتجلى موهبة جلال أمين في كتبه جميعا مثل كتابه الشهير "ماذا حدث للمصريين؟" وكتابي السيرة الذاتية" ماذا علمتني الحياة" و "رحيق العمر". الحق أن ما كتبه جلال أمين يضعه في الصف الأول للأدباء والمفكرين العرب.
قدم جلال أمين رؤية ناضجة متوازنة للثقافة الغربية فلم ينبهر بها لدرجة التبعية كما فعل آخرون بل استطاع التمييز بين مزايا الحضارة الغربية وعيوبها مع اعتزاز عميق بالتراث العربي الذى ينتمي إليه. كان جلال أمين متعدد المواهب فهو من كبار خبراء الاقتصاد وقد نال الدكتوراه في مدرسة لندن للاقتصاد، وهي من أهم معاهد الاقتصاد في العالم. وكان محاضرا عظيما ومفكرا كبيرا يمتلك رؤية ثاقبة وأصيلة لقضايا المجتمع وبالاضافة إلى ابداعه الأدبي الرفيع، كان ناقدا أدبيا يمتلك قدرة مبهرة على تذوق العمل الأدبي والنفاذ إلى أعماقه مستندا إلى ثقافته الموسوعية وحسه الفائق بالجمال.
في أواخر الثمانينيات أنهيت بعثتي في أمريكا وعدت إلى مصر وسعيت إلى التعرف إلى الدكتور جلال فرحب بي وشرفت بصداقته طويلا. ساعدنى الدكتور جلال كثيرا في بداية رحلتي ككاتب فقدمني وكتب مادحا أعمالي الأدبية، وعندما أصدرت مع بعض الأصدقاء مجلة أدبية متواضعة كنا نوزعها باليد وطلبت من الدكتور جلال مقالا وافق بلا تردد. كان آنذاك نجما ساطعا في سماء الفكر والكتابة تسعى إليه كبريات الصحف لتحظى منه بمقال تدفع مقابله أجرا كبيرا وكثيرا ما كان يعتذر لضيق الوقت لكنه آثر أن يدعم مجانا مجموعة من الكتاب الشبان بمقال كتبه خصيصا من أجل مجلتهم المغمورة.
كان جلال أمين فنانا حقيقيا يجتذبه الصدق والجمال وينفر من القبح والتصنع، وكان نموذجا في البساطة والتواضع فلم يعش قط في برج أو صومعة وانما كان يختلط بالحياة اليومية فكان مثلا يذهب من بيته في المعادي إلى عمله في الجامعة الأمريكية بواسطة المترو فيقف في الطابور ليشتري تذكرة ويجلس وسط الناس وهويشعر بالسعادة وكان مع تواضعه شديد الاعتزاز بكرامته لا يقبل الإهانة ولا يعرف التملق أو الكذب. كان شريفا نبيلا يقول دائما ما يعتقده ويفعل دائما ما يقوله ولم يكتب كلمة واحدة في نفاق أى حاكم.
في وسط الانفتاح والترويج لاقتصاديات السوق كان جلال أمين مؤمنا بواجب الدولة الحتمي في حماية الفقراء وكان يعتبر المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مجرد أدوات للاستعمار تربط أسواق الدول الفقيرة بالسوق العالمي من أجل تحقيق مليارات الدولارات كأرباح للشركات العملاقة متعددة الجنسية.
هذه الآراء كان جلال أمين يكتبها ويدرسها في محاضراته وقد أثارت غضب الكثيرين لكنه كان يصر على ابداء رأيه بأمانة مهما تكن العواقب. هذه الاستقامة الاخلاقية بقدر ما حققت له احترام الملايين من القراء جلبت عليه غضب الدولة المستبدة. ولو أن رجلا عظيما مثل جلال أمين ظهر في دولة ديمقراطية لاستعانت به في أكبر المناصب حتى تستفيد من نبوغه وقدراته ولكن الدولة المصرية لم تستعن بجلال أمين في أي منصب فظل برغم نبوغه بعيدا عن دائرة اتخاذ القرار.
على مدى ثلاثين عاما كان معظم وزراء الاقتصاد ورؤساء الهيئات الاقتصادية في مصر من تلاميذ جلال أمين، فهو يفوقهم بكثير في العلم والخبرة لكنهم تفوقوا عليه في مهارة ارضاء الديكتاتور وهي مهارة منحرفة تعتبر من الشروط الأساسية لتولي أي منصب في بلد تحكمه الديكتاتورية العسكرية مثل مصر. حكى لي الدكتور جلال عن اجتماع مع السيسي حضره مع مجموعة من أكبر الاسماء في الثقافة المصرية وقال لي إنه أحس بالخجل من وصلات النفاق المتواصلة للسيسي التي تنافس فيها الأدباء حتى ان كاتبا شهيرا قال للسيسي:
- سيادة الرئيس عندما تسافر خارج مصر أظل طوال الليل مستيقظا خوفا على سيادتك ولا أنام حتى أطمئن على عودة سيادتك بالسلامة.
ظل الدكتور جلال صامتا طوال اللقاء ولم ينطق بكلمة واحدة وسط كل هذا النفاق.
كنت كل شهر ألتقي بالدكتور جلال مع بعض تلاميذه ومؤخرا صعبت عليه الحركة فزرته في بيته قبل سفري للولايات المتحدة. كان مرهقا وبدا عليه المرض ولما سألته لماذا انقطع عن الكتابة نظر إلي بأسى وقال:
ــ أخشى أن أكون قد يئست من تحقق الاصلاح في مصر.
رحت أشجعه على استئناف الكتابة لكن هذه الجملة آلمتنى حقا، فهذا رجل عظيم كان بامكانه بسهولة أن يعيش حياة مريحة في الغرب لكنه فضل أن يعيش في بلاده التي أحبها وظل على مدى خمسين عاما يجاهد مخلصا حتى تتخلص مصر من الفقر والجهل المرض وتلحق بركب الأمم المتقدمة وهاهو في النهاية يكاد يصيبه اليأس. ان دولة الاستبداد حرمتنا من الاستفادة من قدرات رجل عظيم مثل جلال أمين وقصرت المناصب على الطبالين والأفاقين وكانت النتيجة ذلك الحضيض الذى انحدرنا إليه في كل المجالات.
رحم الله الدكتور جلال أمين بقدر ما أحب بلاده وأخلص لمبادئه
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.