علاء الأسواني: ..أهمية أن نسخر من الرئيس..
٢٥ سبتمبر ٢٠١٨في نيويورك، دعوت ابنتي مي لمشاهدة مسرحية للفنان دافيد كارل وهو ممثل ومخرج مسرحي أمريكي معروف.. يقارن دافيد كارل في المسرحية بين شخصية الملك لير لشكسبير وشخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وصلنا قبل موعد العرض فوجدنا القاعة ممتلئة عن آخرها بالمتفرجين وعلى مدى ساعتين تمت السخرية من رئيس أكبر دولة في العالم، ووصفه دافيد كارل بأنه غبي وجاهل وتافه وعنصري لأنه يعادي المسلمين والمكسيكيين والأمريكيين الأفارقة.
حظيت هذه السخرية بتجاوب كبير من الجمهور الذي كان يضحك بشدة، مستمتعا بأداء دافيد كارل الكاريكاتوري لطريقة ترامب في الحديث وقد وضع على رأسه شعرا مستعارا جعله يشبه ترامب تماما. هذالعرض يقدمه دافيد كارل في قلب نيويورك وقد أشادت به معظم الصحف الأمريكية. لم يتقدم أحد ببلاغ للنائب العام الأمريكي ضد دافيد كارل بتهمة اهانة رموز الدولة والتحريض على كراهية النظام ولم تعتقله المخابرات الحربية ولا تم تعذيبه في جهاز أمن الدولة. لا أعتقد أن دافيد كارل قد شعر بأدنى قلق وهو يسخر من رئيس الدولة لأنه يعيش في دولة ديمقراطية. لو كان دافيد كارل سخر على الملأ من مواطن عادي بهذه الطريقة لتمت محاكمته بتهمة القذف والسب، أما رئيس الدولة أو أي موظف عام فان نقده والسخرية منه مهما تكن جارحة، حق مكفول للجميع في اطار حرية التعبير من أجل تحقيق الصالح العام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرجت مع مي من المسرح وركبنا المترو في طريقنا للبيت. لم تكن عربة المترو مزدحمة، وفي المحطة قبل الأخيرة انفتح باب المترو ونزل بعض الركاب وفي لمح البصر قفز شخص إلى المترو وخطف التليفون المحمول من يد ابنتي وقفز خارجا، ساد هرج ومرج ونزلنا بسرعة لنطارد اللص وتطوع بعض الركاب فراحوا يركضون خلف اللص الذي تبين انه عداء محترف فلم يستطع أحد ان يلحق به وهكذا اختفى التليفون أمام أعيننا إلى الأبد.
طلبت مني مي ابلاغ الشرطة ولم اكن متحمسا لذلك اذ ماذا ستفعل لنا الشرطة؟. نيويورك مدينة عملاقة يسكنها ملايين البشر وهذا اللص اختفى في الزحام ولم نستطع حتى أن نميز وجهه. بعد الحاح من مي اتصلت بالشرطة فطلبوا منا الانتظار حيث نقف وسرعان ما ظهر ضابطان وأخذا أقوال مي والشاهد الذي طارد اللص. ظهرت مشكلة ادارية لأن السرقة حدثت داخل عربة المترو وبالتالي فهي تابعة لشرطة المترو وليس للشرطة العادية وسرعان ما ظهر ضابطان من شرطة المترو وقال أحدهما:
ــ أرجو ألا تتوقعا العثور على التليفون بسهولة لأن اللص غالبا يفكه ويبيعه كقطع غيار.
أعطى الضابط تليفونه إلى مي وطلب منها ابلاغ شركة المحمول عن سرقة التليفون مع تسجيل رقم تليفوني. فعلت مي ما طلبه الضابط وبعد حوالي ربع ساعة اتصل بي شخص وقال إن تليفون مي في حوزته ويريد ارجاعه لنا مقابل خمسين دولارا. رد عليه الضابط ووافق على العرض ثم، كما يحدث في الافلام، توارى الضابطان ووقفت أنا ومي أمام باب المحطة وفعلا جاء رجل رث الهيئة وقال لي:
- تليفونك معي اعطني خمسين دولارا
قبل أن يكمل الجملة كان الضابطان قد أحاطا به وقال له أحدهما:
- قبل أن تجيب عن أسئلتي يجب أن تعلم كل ما ستقوله مسجل بالفيديو
(هنا لاحظت كاميرا صغيرة مثبتة في ملابس الضابط)
بدأ الضابط في استجواب الرجل الذي أكد انه اشترى التليفون ولا يعلم انه مسروق وأنه وجده مغلقا فاتصل بنا لارجاعه مقابل خمسين دولارا.
في النهاية قال الضابط:
ــ أنت اشتريت شيئا مسروقا وهذه جريمة. سأقبض عليك.
تقدم منه ووضع يديه في الكلبشات وأوقفه مقيدا أمام الجدار ثم عاد إلى مي ليتأكد أنها استرجعت تليفونها ثم قال لي:
- هذا الرجل سيحاكم اذا قررتما الاستمرار في البلاغ اما اذا اكتفيتما باسترداد التليفون سنطلق سراحه.
طلبنا منه أن يطلق سراح الرجل لأننا لا نريد أكثر من التليفون. قام الضابط بفك الكلبشات من يدي الرجل الذي بدا غير مصدق أنه نجا. شكرنا الضابطين بحرارة وعدنا إلى البيت ووجدتني أتساءل:
لماذا أبدى الضباط كل هذا الاهتمام بسرقة تليفون؟.اننا راكبان عاديان ولسنا من أصحاب النفوذ وليس لدينا توصية من شخصية مهمة بل ولسنا أمريكيين أساسا ثم لماذا تعامل الضابط مع المتهم باحترام حتى أنه لم يصفعه ولم يشتمه وهو يقبض عليه؟.
الاجابة ان مهمة الشرطة في دولة ديمقراطية هي حماية الناس وليست حماية النظام. ثمة علاقة مؤكدة بين المسرحية التي تسخر من رئيس الدولة واحترام الشرطة للقانون والمواطنين. أن تسخر من الرئيس يعني أن تنزع عنه أية قداسة، وتؤكد في أذهان الناس أنه ليس الزعيم الملهم ولا رمز الوطن وانما هو مجرد موظف عام في خدمة الشعب، وهو قد حصل على منصبه بانتخابات حقيقية ليس فيها شراء أصوات الفقراء بشنط الزيت والسكر كما يفعل الاخوان وليس فيها انحياز أجهزة الدولة لمرشح واحد مثل السيسي والقبض على كل المرشحين الآخرين وتلفيق التهم ضدهم.
عندما نسخر من الرئيس نؤكد ان المواطن أهم بكثير من السلطة وأن هيبة الدولة لا تتجسد أبدا في الرئيس وانما في القانون. الشعوب العاجزة عن السخرية من رؤسائها تحكمها ديكتاتوريات نهايتها المحتومة كوارث وهزائم وتدهور شامل يصل بالبلاد إلى الحضيض.
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.