عبد الفتاح: العداء بين جيل الثورة والدولة لا يمكن تخمين عواقبه
٢٦ سبتمبر ٢٠١٤يرى الناشط علاء عبد الفتاح أن المشهد السياسي في مصر أصبح مثقلاً بالصراع بين السلطة الحالية والإخوان المسلمين، مشيراً إلى ضرورة أن يحدث الإسلاميين تغييراً كبيراً في أفكارهم وإيديولوجياتهم وآليات عملهم. ويؤكد أن ذلك يعود إلى أن الإسلام السياسي يعيش أزمة كبيرة. أما فيما يتعلق بالدولة فيرى أن مؤسساتها تتحمل مسؤولية العنف والظلم الاجتماعي. وهذا هو نص الحوار:
DW عربية: كيف كان شعورك عندما تلقيت خبر وفاة والدك، الناشط الحقوقي أحمد سيف، وأنت في السجن؟
علاء عبد الفتاح: ما زلت أحاول أن استوعب خبر وفاة والدي. في الحقيقة من الصعب وصف مشاعري. الخبر وصلني وزملائي الذين كانوا معي في السجن، عن طريق الراديو. الخبر كان كصدمة بالنسبة للكل. بعد إطلاق سراحي مازلت استكشف غيابه، بعدما وقفت أمام المحكمة وأنا أعرف أنه لن يدافع عني مجدداً، أو بعدما ذهبت إلى البيت ولم أجده هناك.
ماذا يعني لك إطلاق سراحك في هذه المرحلة؟
حتى هذه اللحظة لا يمكنني استيعاب ذلك، لأن القضية مازالت مستمرة ويمكنهم حبسي في أي وقت. في السابق كان قد أُخلي سبيلي ولكني عدت إلى السجن بعد شهرين فقط. وبالتالي فأنا معرض للعودة إلى السجن في أي وقت، ليس لدى أدنى فكرة ما إذا كنت فعلاً حراً أم لا. من ناحية أخرى فإن الأمر سياسي بحت ولا علاقة له بالعدالة. طلبنا من هذا القاضي التنحي لأن بيننا خصومة قديمة، فهو متهم بتزوير الانتخابات في عهد مبارك. وهذه الخصومة أو المعركة تنفي عدالة القضية. القاضي تجاهل مطالبنا بتنحيه عن القضية لشهور عديدة ولكن فجأة استجاب لها.
وهو أمر مرتبط بالإضرابات المتعددة عن الطعام داخل السجون وخارجها من جهة وبالاهتمام الإعلامي الدولي المتزايد بالقضية من جهة أخرى. لكن كل هذه الأمور لا تطمئن لأن المسألة لا تسير على قواعد القانون أو العدالة، وإنما هي سياسية، ولا توجد أي ضمانات لتقلبات السياسة. كما أن أختي سناء مازالت في السجن ولن أشعر بفرحة الحرية إلا بعد إطلاق سراحها.
من الصعب تخمين الإجابة عن هذا السؤال، فخلال الأسبوع الذي تم الإفراج فيه عني وعن زملائي، حُكم على الناشط ياسين صبري بأربع سنوات في قضية مماثلة متعلقة بقانون التظاهر. أرى أن السلطة تحاول حالياً إلى الوصول إلى تهدئة مؤقتة من خلال إطلاق سراح أشخاص معروفين كعلاء عبد الفتاح أو الصحفية ماهينور المصري. لكنها لا تحل ملفات المعتقلين السياسيين أو انعدام العدالة في المحاكم أو استهداف شباب الثورة. لا أعتقد أن تكون هناك حلولاً في الأمد القريب.
على ذكر شباب الثورة، كيف ترى وضعهم تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي؟
في البداية، مفهوم شباب الثورة هو مفهوم صعب التعريف. لكن من المؤكد أن هناك جيل، ربما ليس كاملاً ولكن قطاع واسع منه وهو قطاع فاعل في المجتمع، بات محبطاً تماماً مما حدث وما يحدث الآن. كما أنه محبط من نظام الحكم ومن مؤسسات الدولة المصرية برمتها. فهذا النظام لا يوفر لا تعليم ولا صحة ولا حرية شخصية، عوضاً عن ذلك بدأ ينتزع هذه الحريات في المجال العام وفي الشارع، في الفن والموسيقى وفي العلاقات بين الجنسين. في كل هذه المجالات هناك هجمات شديدة.
لماذا وصل الأمر إلى هذا الحد؟
هذا مرتبط بالحرب الدائرة بين السلطة والإسلاميين. السلطة تستخدم القمع في محاربتها للإسلاميين حاليا، وتدعي أنهم كلهم من الإرهابيين. في الوقت ذاته تحاول المزايدة عليهم من خلال ممارسات محافظة ومن خلال القمع، أي خروج عما يعرف بالآداب العامة والنظام العام ومحاربة كل حالة أو ثقافة شبابية. وبالتالي، هناك عداء ما بين جيل الثورة والدولة، لا يمكن تخمين عواقبه. ولا يمكن التخمين إلى أي مدى قد يعبر الشباب عن هذا الصراع من خلال حركات ثورية منظمة تتحدى السلطة، أو ثقافياً من خلال سخط أدبي وفني، أو حتى من خلال تزايد في العنف المجتمعي.
لنتحدث عن الجزء الآخر من المعارضة في مصر، عن الإخوان المسلمين...
هذا موضوع صعب. لكن دعني أقول أولاً أن السبب الرئيس لغضب السلطة الحالية علي هو رفضي للمذابح التي اُرتكبت ضد مناصري الرئيس الأسبق محمد مرسي والإخوان المسلمين ورفضي لاعتقالهم ولإهدار العدالة ولإهدار كرامتهم كأشخاص ولتعذيبهم في السجون ولإقصائهم عن الحياة السياسية. رغم ذلك لا يفصلني بالإخوان المسلمين الاختلاف الأيديولوجي فقط، لكني مستمر في خصومة سياسية معهم بسبب لجوئهم للتحريض وللعنف الطائفي.
أعتقد أن ذلك أخطر ما قد يحدث في المجتمع المصري. الإخوان المسلمون هم من تسبب في عودة هيمنة العسكر بالشكل الحالي، وذلك لكونهم رفضوا التعاون مع المختلفين معهم سياسياً إلا إذا كانوا من أهل العسكر أو السلطة أو المال. كما أنهم تمسكوا بخطاب وسلوك طائفي خلق حالة من الرعب داخل فئات واسعة من المجتمع، جعلها تلجأ للاحتماء بمؤسسات كالقضاء والجيش والشرطة. الإخوان المسلمون ورطونا بذلك في صراع مستمر مع هذه المؤسسات. كما ساهموا، ولو بقدر قليل لا يقارن بالدولة، في إذكاء حالة العنف التي يشهدها المجتمع. لذا أرى أن الصراع الرئيس يدور حالياً بين العسكر والإسلاميين.
لكن ما موقع الأطياف الأخرى في هذا الصراع؟
نحن كقوى علمانية أو كحقوقيين أو حتى كشباب ثوري متطلع إلى مجتمع مختلف تماما عن الحالي، لسنا طرفا في هذا الصراع. كما أننا لا نستطيع أن نكون طرفا فيه لأن هناك خطورة شديدة لتزايد العنف داخل المجتمع. وهنا لا أقصد فقط عنف الدولة، إذا تدخلنا بقوة. لذا فنحن ملتزمون في الوقت الراهن بالخطاب الحقوقي وبمحاولة وقف العنف والظلم والاعتقالات بشكل مبدئي لأن أغلبية من يتعرضون لهذا الظلم هم من الإسلاميين.
بالرغم من الاختلافات السياسية والإيديولوجية الموجودة؟
بالطبع. أنا أرى أنه من الضرورة أن يحدث الإسلاميين تغييراً كبيراً في أفكارهم وإيديولوجياتهم وآليات عملهم. كما أنه من المفروض أن يقوموا بتفكيك تنظيماتهم ومؤسساتهم، ليس في مصر وحدها ولكن في المنطقة وفي العالم الإسلامي كاملاً. الإسلام السياسي يعيش أزمة كبيرة كما أنه يسبب أزمة شديدة في هذه المجتمعات.
لكن في الواقع لا أتوقع أن يقوم هؤلاء الناس بمراجعة أفكارهم، وهم مهددون بالاعتقال أو التعذيب أو القتل. بالعكس من ذلك: السجون تجعل المرء يتمسك بأفكاره بشكل أكبر. الظلم الذي يعاني منه الإخوان المسلمون، يلغي أي إمكانية للحوار معهم حول ما يشكل قلقاً داخل منظومتهم الفكرية أو في سلوكهم السياسي أو حتى حول ما أعتبره جرائم ارتكبوها حين توليهم زمام السلطة في مصر. لذا أرى أن دورنا في الوقت الحالي هو محاولة إيقاف عجلة الظلم والعنف في المجتمع والتي تتحمل مؤسسات الدولة والسلطة المسؤولية الأساسية فيها. بعدها يمكن أن نبحث معاً طرق وآليات بناء مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية وحرية.
سيناريو غير محتمل في الوقت الحالي. هل ترى ثمة أمل في التسامح؟
من جانبنا نحن أضعف من إن نفرض شيئاً على النظام الحالي: لا القصاص ولا التسامح. أنا أضعف من ذلك. لكني مبدئيا ملتزم بالدفاع عن حقوق الضحايا. دعني أقول أن حجم الظلم الذي رأيته في السجون في الفترة الأخيرة يجعلني لا أتمناه حتى لقتلة أبي. وأنا أحمل الشرطة والسلطة والمحاكم والقضاء بالتحديد مسؤولية وفاة والدي لكونهم تسببوا في إهدار صحته وتأجيل العملية الجراحية التي كان في أمس الحاجة إليها. رغم ذلك لا أتمنى السجن لأحد. لأني لا أرى أي فائدة في السجون أو وسائل العقاب المختلفة.
لكنني متأكد من أننا في أمس الحاجة، في سياق العدالة الانتقالية، إلى معرفة الحقيقة وإلى المصارحة. ففي الفترة الأخيرة تم التشويش على الرأي العام المصري من خلال بث معلومات مغلوطة حول أحداث عاشها المصريون بأنفسهم. لكن أطراف الصراع خلقت مغالطات شديدة كالادعاء مثلاً بقيام مقاتلي حزب الله أو حماس هم من قاموا بقتل المتظاهرين في ميدان التحرير. في حين كل من كان موجود هناك رأى أن المعتدين كانوا من بلطجية نظام حسني مبارك، وبتواطؤ من المؤسسة العسكرية.
وماذا عن الإخوان المسلمين؟ ألم يقوموا بأعمال عنف ضد المتظاهرين؟
الإخوان المسلمون ينكرون تماما أنهم ارتكبوا أي جرائم أو أخطاء سياسية خلال السنة التي كانوا فيها في السلطة. كما أنهم ينكرون تماماً أن تكون لهم أي صلة بالعنف الموجود حالياً في الشارع رغم أن علاقتهم بهذا العنف مؤكدة - وإن كانت علاقة فكرية أو إيديولوجية. ربما يكون العنف انفلت من أيديهم وفقدوا السيطرة عليه. أنا لا أحملهم مسؤولية جنائية معينة. لكن خطابهم الذي يدعي أن لا علاقة لهم بالعنف وأنهم سلميين، هو خطاب وهمي بالتأكيد.
لنعد إلى السؤال الرئيسي: ما هي حظوظ التسامح؟
الجميع متورط الآن. للأسف من معسكري أيضا، ومن العلمانيين والليبراليين واليساريين بل ومن بعض الحقوقيين. هناك من تورط في تشجيع الدولة على القتل والتعذيب ولاعتقال وإهدار حقوق الإنسان. كلنا تورطنا في بعض الأحداث وقمنا بكوارث ودفعنا بهذا المجتمع إلى منطقة خطيرة للغاية. ففي صيف 2013 وقع اقتتال أهلي، وقامت مظاهرات ومظاهرات مضادة، قوبل بعضها بالسلاح. كان هذا كابوساً.
أصبح الأمر الآن أقل خطورة، لكنه لا يزال يدعو للفزع. الصراع الرئيس يدور حاليا بين السلطة والإسلاميين أساساً كما قلت. وتبقى الدولة الممارس الرئيس للعنف في هذا الصراع. هناك أيضاً إرهاب ضد الدولة أساساً، ومن المحتمل أيضاً أن يتجه إلى أهداف مدنية. لذا فالوضع خطير للغاية وهو ينذر بعودة كابوس صيف 2013.
ما هو الحل إذن؟
لست متأكداً من أن الحل يكمن حتى في المحاكمات العادلة أو القصاص، ومن أن المؤسسة القضائية المصرية يمكن أن تجري محاكمات عادلة في أي يوم من الأيام. لكني أتمسك بالحقيقة. يجب أن نتصارح جميعاً وأن نعترف وأن نحصل على البيانات والمعلومات التي تجعلنا نفهم ما حصل، ثم نبدأ بعملية حوار يكون سؤالها المحوري: كيف نتفادى تكرر ذلك؟
ليس لدي طرح أو مشروع محدد عن كيفية وصولنا إلى العدالة الانتقالية، كما لا أعرف ما إذا كان سيحصل ذلك أم لا. لأننا وكما ذكرت، أضعف من نفرض حلاً كهذا. من المفروض أن يقوم طرفا الصراع الرئيسيين باختيار حل كهذا. من جهتنا فنحن نتمسك بتوثيق الحقيقة حتى تتمكن الأجيال القادمة على الأقل من تفادي تكرار الكارثة والكابوس الذي نعيشه حاليا.
سؤال أخير: لقد تم ترشيحك لنيل جائزة ساخاروف أو ما تعرف بجائزة حقوق الإنسان والتي يقدمها البرلمان الأوربي تقديرا لحرية الفكر. كيف تنظر إلى هذا الترشيح؟
هذا أمر يسعدني ويشعرني بالفخر. لكن ما يسعدني أكثر كون المرشحين معي في نفس الفئة هما مغني الراب التونسي "ولد الكانز" والمغني المغربي "الحاقد". كلاهما معروف بكسر التابوهات والبذاءة في سب السلطة والشرطة والملك في حال "الحاقد". وهذه أشياء معروف عني ممارستها أيضاً، لكن في مجال التدوين وأنشطة أخرى.
وهذا ما يعرضني لهجوم شديد من قبل الخصوم السياسيين لإصراري على ممارسة البذاءة في وجه العنف، الرمزي منه واللفظي، وفي وجه العنف المادي أيضاً الذي يقتلنا ويعذبنا ويحبسنا. لذلك فأنا فخور للغاية بكوني من المحسوبين على شباب قد يكونوا أصغر مني سناً لكنهم أكثر إخلاصاً للقيم وتحدياً للسلطة.
وأني صُنفت معهم في الترشيح لجائزة ساخاروف وليس ضمن نشاط حقوقي أكثر أدباً، نشاط يتصور أنه يمتاز بمكانة أعلى. على أي حال أنا ممنوع من السفر، لو تم ترشيحي في القائمة القصيرة أو حتى لو منحت لي الجائزة فلن أتمكن من السفر للمشاركة في فعاليات الجائزة. الترشيح في حد ذاته تكريم كاف بالنسبة إلي.
أجرى الحوار: خالد الكوطيط - القاهرة