روسيا ـ ربع قرن تحت حكم بوتين.. فكيف احكم قبضته على السلطة؟
٩ أغسطس ٢٠٢٤عندما غادرت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل العمل السياسي قبل ثلاث سنوات، كان يفترض أن يقوم رئيس مكتب DW في لاتفيا يوري ريشيتو بإجراء مقابلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو في إطار عمل وثائقي يسلط الضوء على الحياة السياسية لأول مستشارة في تاريخ ألمانيا.
ويشمل العمل الوثائقي إجراء مقابلات مع رؤساء وحكومات عدة عملوا على مقربة من ميركل التي تولت الاستشارية من عام 2005 وحتى 2021.
بيد أن الكرملين رفض طلب إجراء المقابلة وعزا ذلك إلى أن كل القادة الذين تحدثوا في العمل الوثائقي باتوا مسؤولين سابقين في حين أن بوتين مازال في منصبه. ورأت الرئاسة الروسية أن المقابلة ليست مهمة لبوتين.
لكن الكرملين سمح للصحافي ريشيتو بإجراء مقابلة مع ديمتري ميدفيديف ، الشخصية الروسية التي تولت رئاسة البلاد لولاية واحدة بين عامي 2008 و 2021. وبسبب عدم تمكن بوتين من الترشح للرئاسة مجددا عام 2008 لعدم الدستورية، فقد أصبح رئيسا للوزراء في فترة رئاسة ميدفيديف، لكنه أمسك بيده كافة الخيوط السياسية والعسكرية في البلاد.
وخلال تلك الفترة، لم يكن ميدفيديف بأي حال من الأحوال الرجل الأول في روسيا . فعلى مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، كان بوتين هو رجل روسيا الأول بلا منازع منذ تعيينه رئيسا للوزراء من قبل الرئيس آنذاك بوريس يلتسين في التاسع من أغسطس/آب 1999. وخلال هذه الفترة الزمنية كان الساسة الغربيون، بما في ذلك المستشارة الألمانية ميركل، يأتون ويذهبون، فيما بقي بوتين في السلطة.
ومنذ ذلك الحين، ظل بوتين الشخص الوحيد الذي يمسك بزمام الأمور في روسيا التي تحولت إلى ما يشبه "أقوى دكتاتورية شخصية في العالم"، بحسب تعبير المحلل السياسي الروسي المخضرم ميخائيل كومين. ففي مقابلة مع DW، قال كومين إن روسيا لم تكن لتسلك هذا المسار لولا "وجود بوتين الذى مضي قدما في تقويض كافة مؤسسات البلاد السياسية على مدى ربع قرن من بقائه في السلطة".
المركزية وتمحور النظام حول بوتين
ويشير كومين إلى أن البداية كانت مع إلغاء الحكم الذاتي الإقليمي حيث دشن الكرملين أسلوبا خاصا للسيطرة على المناطق الروسية بهدف تمهيد الطريق أمام توطيد السلطة. ويتفق في هذا الرأي المحلل السياسي الروسي غريغوري نيشنيكوف.
وفي مقابلة مع DW، قال نيشنيكوف الذي يقيم حاليا في فنلندا، إنه خلال السنوات الأولى لحكم بوتين، "كانت هناك مراكز قوى مستقلة دستورية وغير رسمية مثل الأوليغارش. لقد شكلت هذه المؤسسات نوعا من الثقل الموازن للكرملين".
وأضاف نيشنيكوف أن بوتين "دمر كل هذا وجعل كل شيء مركزيا، مع عمله على تمحور النظام السياسي حوله". ورغم ذلك، يعتقد الخبير الروسي أن هذا لم يكن السبب الوحيد الذي ساهم في بقاء بوتين على رأس هرم السلطة في روسيا خلال السنوات الماضية.
وفي ذلك، أشار إلى أحداث كان يمكنها أن تشكل خطرا على مسيرة بوتين السياسية مثل المظاهرات الضخمة احتجاجا على نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2011.
وشمل ذلك الأزمة التي تلت ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 بما يخالف القانون الدولي، وأيضا ما أثاره إصلاح نظام التقاعد من احتجاجات واسعة النطاق عام 2018، فضلا عن دعوات لمظاهرات ضخمة ضد الحكومة في أنحاء البلاد خلال السنوات الماضية دعت إليها المعارضة وعلى رأسها المعارض الراحل ألكسي نافالني، الذي كان من أشرس منتقدي بوتين.
بيد أن الحدث الأبرز كان قرار بوتين التوغل العسكري في أوكرانيا، وخروج مظاهرات احتجاجية ضد الحرب في شوارع موسكو وسان بطرسبرغ.
إضعاف القضاء والسيطرة عليه
وحسب نيشنيكوف كانت الحكومة كانت ترد بيد من حديد على كافة أشكال الاحتجاجات والمقاومة الشعبية ضد بوتين، مضيفا "كان يتم دائما القضاء على الخصوم الجدد في سياق هذه الأحداث، لذا لا يوجد ثمة لشخص واحد يمكنه الآن الوقوف في وجه بوتين".
من جانبه، أشار ميخائيل كومين إلى عامل آخر ساهم بقوة في توطيد حكم بوتين واستمراره على رأس السلطة ألا وهو مساعيه المضنية إلى إضعاف القضاء وسلطة المحاكم بشكل متعمد خلال ولايته الثانية. وقال إن بوتين منح كبار القضاة الموالين للسلطات صلاحيات أكبر على القضاة الأقل منهم في السلم الوظيفي.
وأضاف الباحث أن هذا الأمر أدى إلى أن أصبحت المحاكم الروسية غير مستقلة؛ إذ يمكنها في أفضل السيناريوهات تخفيف عمليات قمع المواطنين الذي تمارسه السلطات، لكن لا يمكنها بأي حالة من الأحوال وقف ذلك. وتفاقمت الأمور مع إقدام بوتين على إحداث تغيرات في النظام الانتخابي تصب في صالح حزبه الحاكم روسيا الموحدة.
بوتين وحكومة الظل
وبدلا من أن يضع نفسه في مواجهة مباشرة أمام المعارضة التي تدعو إلى إحلال الديمقراطية في روسيا، عمد بوتين إلى إنشاء ما يشبه بـ "حكومة ظل"، بحسب وصف عالم الاجتماع الروسي ألكسندر بيبكوف. وقال إن بوتين حرص على وجود أشخاص حوله يشترك معهم في مصالح تجارية محددة.
وقد مُنِحَت شركاتهم هؤلاء عقودا حكومية ضخمة، الأمر الذي جعلها تجني مبالغ ضخمة من المال. وفي هذا السياق، قال بيبكوف: إن بوتين "يمسك دائما بزمام الأمور، بل وينخرط شخصيا في الأعمال التجارية".
وأضاف أن هذا الأمر تزامن مع تصدير صورة للعامة بأن روسيا "لم تلعب سوى أدوار إيجابية في تاريخها. كل الجوانب السلبية تم محوها وجرى طمس جميع الصراعات السابقة. يعد هذا تلاعبا بالذاكرة التاريخية بهدف تعزيز قوة بوتين".
وأضاف أن "السرد الذي حاول بوتين تقديمه، كان يقوم على تصوير روسيا على أنها مجتمع يتمتع بقيم تقليدية يرفض الانخراط في صراعات مع السلطة مع التأكيد على أهمية الولاء غير المشروط لمن هم في السلطة".
وشدد الخبراء الثلاثة على استمرار هذه الممارسات وأن بوتين سوف يبقى على رأس السلطة خلال مقبل الأعوام.
وفي هذا السياق، قال ميخائيل كومين إن "المشكلة تتمثل في غياب أي مرشح بديل أو عدم وجود مجال لخروج مرشح بديل. آخر انتخابات حقيقة فاز بها بوتين كانت عام 2004. ومنذ ذلك اتسمت كافة الانتخابات بعدم النزاهة".
من جانبه، أشار غريغوري نيشنيكوف إلى أن الروس "لا يرون بديلا لبوتين وسط قلقهم إزاء أي تغيير. هناك دائما ميل في روسيا لتفضيل مبدأ وجود يد قوية في السلطة".
وأضاف "الروس يريدون زعيما قويا قادرا على اتخاذ القرارات الصعبة وحل أزمات البلاد. وفي حالة وجود تذمر، فإن الروس سوف ينتقدون الحكومة أو المسؤولين وليس الرئيس وكـأن لسان حالهم يقول (لو عرف بوتين بذلك، لكان حل المشكلة على الفور!). وهذا يمثل تقليدا قديما في البلاد".
أعده للعربية: محمد فرحان