رواية بولندية تجمع بين دانتي وأبي العلاء المعري
٥ مارس ٢٠١٤DW عربية: كيف تصف تجربتك مؤخراً في معرض الكتاب في الدار البيضاء حيث قُرأت مقاطع من روايتك "بائع الحكايات" مصحوبة بالموسيقى، وكيف كان وقع روايتك المترجمة من البولاندية إلى العربية على الجمهور المغربي؟
ستانيسواف ستراسبورغر: في الركن المخصص لمعهد غوته الألماني قمت بقراءة مقاطع صغيرة من روايتي على الجمهور المغربي باللغتين البولندية والألمانية. شريكاي في القراءة اثنان من المغاربة كانا يقرآن مقاطع اللغة العربية. في حين كان مغربي ثالث يعزف على آلة القانون التي أحبها. عند قراءة المقاطع العربية يرفع القارئ صوته في مواطن معينه ويخفضه في مواقع أخرى بحسب مايراه مناسبا. وتتداخل الموسيقى مع قراءتنا وأحيانا يتوقف عازف القانون عن العزف. وهذا ما يسمى بالقراءة المصحوبة بالموسيقى.
في فعاليات سابقة مماثلة في كولونيا وبيروت ووارسو تمت قراءة مقاطع قصيرة من روايتي ولكن اصطحبتها موسيقى آلة العود. طبعا ليس المقصود في مثل هذه الفعاليات أن يفهم المستمعون فحوى الكلمات، بل المقصود أن يعايشوا أصوات اللغات الثلاث. وهذا يعكس ما عايشته أنا أيضا في العالم العربي، مثلا بسماع صوت الأذان من المساجد وصوت تلاوة القرآن عبر مكبرات الصوت. وفي الدار البيضاء كان الحاضرون مسرورين لأني أتكلم اللغة العربية إلى حد ما وقد كانوا سعيدين برؤية أجنبي يتناقش معهم باللغة العربية. وأنا كنت مسرورا أيضا لأن روايتي كانت موضوع حوار.
ما أكثر ما تراه شيقا في روايتك، ككاتب للرواية؟
أكثر ما أراه شيقا هو أني اكتشفت أن ما تعلمته في مجال الفلسفة في الجامعة رأيته متجسدا على أرض الواقع في العالم العربي في الحياة اليومية. إذ ثمة أساليب للسرد والحكاية الأدبية تعلمتها نظرياً مثل: أسلوب السرد ما بعد الحداثي والأسلوب التفكيكي الذي لا يوجد فيه تسلسل متتابع للأحداث، وأيضا أسلوب السرد بصيغة الراوي أو الـ "أنا". وهي أساليب يعايشها الناس على أرض الواقع في العالم العربي. وقد ألهمني ذلك وألهم روايتي التي تحاول أن تسجل هذا التدفق الفكري العربي.
وحول ماذا تتمحور روايتك "بائع الحكايات"؟
روايتي هذه تتحدث عن مهندس غربي أوروبي بولاندي يذهب إلى سوريا ضمن فريق تقني للتنقيب عن الغاز في صحراء دير الزور في شرق سوريا. لكنه يقع في غرام هذا البلد وينسحر به من زيارته الأولى. فيترك عمله في مجال التنقيب عن الغاز ويبقى في سوريا. وقد ساعده على ذلك أيضا أنه يمتلك المال. وبما أنه يهوى الثقافة والمجتمع فقد أصبح حكواتيا يروي ما تحدث له من قصص وحكايات.
إنه حكواتي يحكي بطريقة السرد الأدبي ما بعد الحداثي. ويلتقي بأناس عديدين. ومنهم فتاتان: إحداهما فلسطينية لبنانية تعيش في الأردن، والأخرى من أريتريا وتدرس في دمشق. ولا يعرف تماما إن كان قد سقط في غرام واحدة منهما. كما أنه لا يعرف ما الذي تريدان منه بالضبط. فحين تلتقي الثقافات تكون هناك صعوبة في التعبير والتفاهم. ولكن الأمر هنا يتعلق بأن لغة الحب والصداقة راسخة في كل ثقافة. وتدور أحداث الرواية في كل من دمشق وحلب والعقبة.
الرواية مقسمة إلى فصول وفيها لعبة أدبية، يتساءل فيها الحكواتي وأيضا نصوص الأدب العربي حول ما هو خيال وما هو حقيقة. وفي قمة هذه اللعبة الأدبية يلتقي شاعران كبيران وهما: الشاعر الغربي المسيحي دانتي بنصوص كتابه "الكوميديا الإلهية" وأيضا الشاعر الشرقي المسلم أبو العلاء المعري بنصوص كتابه "رسالة الغفران". ويتنافسان في حضور جمهور ولجنة تحكيم كما في برامج التوك شو التلفزيونية. أنا أقتبس في الرواية من نصوصهما الحقيقية. وكل منهما يحاول إثبات أنه يستطيع الحديث أفضل من الآخر عن الجنة. إنها مبارزة بين الشاعرين الكبيرين حول الفردوس.
وهل هذا صراع أم حوار؟
إنه صراع ولكن بالكلمات. والكلمات لا تسفك الدماء. وجزء من الرواية عبارة عن محاولة لاكتشاف عالم آخر غريب أيضا من خلال النصوص الأدبية المقتبسة من مصادرها الأصلية. وذلك بالأخذ بعين الاعتبار أنه لا يمكن احتكار الحقيقة، ولا توجد حقيقة واحدة بل ثمة حقائق عديدة.
يوجد في الرواية أيضا نصوص قرآنية...
نعم. فقد وجدت أن القرآن حاضر من خلال التلاوة بشكل كبير في العالم الإسلامي أكثر من حضور الإنجيل في الدول الأوروبية. بل وحين تركب في سيارة تاكسي في العالم الإسلامي تسمع القرآن أيضا. ولذلك أردت إبراز ذلك في روايتي.
كيف كان أول تماس لك مع الثقافة العربية؟
حين كنت في عمر التاسعة أهداني شخص كتابا مصورا للأطفال حول الحملات الصليبية. وفيه صور للمحاربين الصليبيين الذين ذهبوا إلى فلسطين. فتأثروا بالسكان المحليين هناك وأصبحوا يرتدون ملابس تشبه ملابسهم، وهي أثواب ملونة مميزة يرتدونها حاملين أسلحتهم المعروفة. سحرتني هذه الأزياء وبقيت في ذاكرتي وكنت أرسمها دائما في طفولتي لأني كنت أحب الرسم كثيرا. لقد كانت هذه الأزياء بمثابة موضة عربية وصلت في ذلك الزمان إلى أوروبا. الشيء الآخر في المقابل، الذي أثار اهتمامي واكتشفته فيما بعد، بعد وقت طويل للغاية، هو أن هؤلاء الصليبيين الغربيين، بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، الذين يعتبرون أنفسهم "مسيحيين" أرادوا التحالف مع المغول من أجل قتال المسلمين. وهذا يقلب رأسا على عقب كل الخطاب الديني الحربي الذي حاول النظام التعليمي المدرسي الأوروبي في البداية إقناع نفسه به، والذي كان يقول إن الحملات الصليبية جاءت "لتحرير الأراضي المقدسة" ممن كانوا يعتبرونهم "مسلمين كفارا وغير مؤمنين".
لكن أيضا من المسيحيين العرب من رفضوا التعامل مع الصليبيين. كما أن هذه المناهج نفسها تعتبر أن المغول برابرة بل وقد يصلون وفقها إلى مرتبة آكلي لحوم البشر. وهنا يتساءل المرء: كيف يمكن لمن يعتبرون أنفسهم "مسيحيين مؤمنين" أن يتحالفوا مع البرابرة ومع من يكاد أن يكون من آكلي لحوم البشر. وحينها يعلم المرء أن الأمر يتعلق بالسلطة السياسية وليس بالدين. وهي قصص تبقى عالقة في أذهان الأطفال والصبيان. وغير ذلك من قصص استعادة إسبانيا من المسلمين وإقامة دولة كاثوليكية في شبه جزيرة إيبيريا. لكن الشيء المبتذل هو أن يتم تفعيل ذلك واستخدامه في الخطاب السياسي المعاصر من كلا الجانبين. وهذا أمر يصيب بالصدمة.
وكيف ترى ذلك اليوم؟
أنا أحاول حاليا أن أجد هذه الأمور من جديد. وأنا مسرور جدا بالجهود الإسبانية الحالية الكبيرة الرامية من خلال مشاريعها إلى تغيير مناهجها المدرسية تغييرا جذريا. فإسبانيا اليوم تصف ما حدث في غرناطة وفي قرطبة بأنه تراث معماري عربي وجزء من حضارتها وتاريخها. أما في المجر فالوضع حاليا مختلف. فما زال الهنغاريون مثلا يكتبون على حمامات البخار التركية القديمة الموجودة في المجر أنها بُنيَت في عهد "الاحتلال التركي". وهنا توجد مفارقة، لأنهم يستفيدون من هذه الحمامات لجني أموال طائلة في المجال السياحي وفي الوقت نفسه يرفضون اعتبارها جزءا من حضارتهم. أنا لا أريد تغيير التاريخ. صحيح أن الأتراك كانوا هم من هاجموا هنغاريا، ولكنهم سكنوا واستوطنوا هناك لمئات السنين، ولذلك فهم أصبحوا جزءاً من التاريخ في المنطقة، شاء من شاء وأبى من أبى.
وما هي خططتك المستقبلية؟
انتهيت من كتابة كتابي الجديد: "الهاجس". وهو عن الآثار الاجتماعية للحرب الأهلية اللبنانية. وأتمنى أن يصدر هذا الكتاب هو وروايتي "بائع الحكايات" قريبا باللغة الألمانية. كما أود أن أكون حاضرا من جديد في معارض الكتاب في البلدان العربية، بقراءة مقاطع من نصوصي مصحوبة بالموسيقى أو حتى دون موسيقى. فضلا عن أني سأواصل العمل في مشروع التبادل الاجتماعي والثقافي الذي تتبناه كل من بلدية العاصمة اللبنانية بيروت وبلدية مدينة كولونيا الألمانية، الذي من أهدافه معالجة المشكلات التاريخية والاجتماعية بأساليب فنية.