تونس.. "مشروع واعد" يسبب صداعاً في ألمانيا
١٣ فبراير ٢٠١٧تصريح المستشارة الألمانية ضمن رسالتها الأسبوعية المتلفزة على الإنترنت، مرت عليه وسائل الإعلام الألمانية مرور الكرام، بينما اهتمت بتأكيدها على مسألة تسريع إجراءات إعادة التونسيين المرفوض طلبات لجوئهم إلى بلدهم، خاصة المصنفين "كخطيرين" أمنياً، وإشارتها في هذا السياق إلى تداعيات هجوم الدهس في برلين، الذي نفذه التونسي أنيس العامري.
مشهد يختزل التحول الكبير الذي حصل في نظرة الرأي العام الألماني لتونس. فخلال عام واحد تغيرت أمور كثيرة في نظرة الألمان لهذا البلد المغاربي الذي يجتاز مرحلة انتقالي سياسي صعب، وتبحث حكومته عن مزيد من الدعم الألماني.
"الاستثناء في بلدان الربيع العربي"
قبل عامين احتفت وسائل الإعلام الألمانية بنيل الرباعي التونسي، الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة (هيئة أرباب العمل) وهيئة المحامين، بجائزة نوبل للسلام، لدور هذه المنظمات غير الحكومية في الحوار الوطني والتوافق الذي ساعد تونس على الخروج بشكل سلمي من أزمة سياسية خانقة إثر الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وحظيت عملية الانتقال السياسي للسلطة في تونس، إبانها بإشادة كبيرة من الساسة والإعلاميين في ألمانيا، ليس فقط لنجاحها محلياً، بل لأنها اعتبرت كاستثناء من بلدان ثورات الربيع العربي التي تغرق في أزمات سياسية وحروب أهلية طاحنة.
وقد لعبت ألمانيا دوراً مهماً في دعم عملية الانتقال الديمقراطي في تونس، عبر برنامج "شراكة الانتقال" الذي دشنه وزير الخارجية الألماني الراحل غيدو فيسترفيله، مبكراً إثر الثورة التونسية، وتستفيد تونس بمقتضاه من مساعدات سنوية قيمتها 100 مليون يورو في مجالات دعم الانتقال السياسي والاقتصادي وبرامج التكوين والتعليم. وبدورها رفعت وزارة التنمية الألمانية مساعداتها إلى تونس من 37,5 مليون يورو سنة 2010 إلى 290,5 مليون يورو في العام الماضي، وهي مساعدات موجهة بالأساس إلى خلق فرص عمل للشباب وتجشيعه على الاستقرار في البلاد، بدل المجازفة في الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، بالإضافة إلى دعم سياسي وأمني في مواجهة التهديدات الإرهابية والمخاطر التي تواجهها داخلياً وتأتيها من محيطها الإقليمي وخصوصا الجوار الليبي المضطرب.
وحتى عندما وقع الهجوم الإرهابي الدامي على فندق كبير في مدينة سوسة السياحية عام 2015، وسقط فيه ضحايا ألمان وأجانب، كانت ألمانيا من بين الدول الغربية القليلة التي لم تحظر سفر مواطنيها إلى تونس التي حافظت على مر السنين على صورتها كقبلة للسياح الألمان. كما واصلت مئات الشركات الألمانية استثماراتها في أحرج الفترات التي مرت بها البلاد.
"صورة تونس كمصدر للجهاديين"
لكن صورة "الإستثناء من بين بلدان الربيع العربي" التي تمتعت بها تونس لدى الألمان، طيلة الأعوام الخمسة الأولى بعد ثورة الياسمين، ستهتز بشكل دراماتيكي على وقع أحداث مأساوية متتالية.
بعد الهجومين الإرهابيين في عام 2015 على متحف باردو بتونس العاصمة وفندق سياحي كبير في سوسة، ضاعفت ألمانيا مساعداتها الأمنية لتونس، عبر برامج تأهيل وتجهيز للمؤسسات الأمنية والعسكرية التونسية، وتنسيق التعاون عبر فتح مكتب للشرطة الإتحادية الألمانية في تونس. لكن صورة تونس البلد الصغير الذي لا يتجاوز عدد سكانه 11 مليون نسمة، ستسوء بشكل ملحوظ، في ظل تواتر تقارير وسائل الإعلام والاستخبارات الغربية والعالمية، حول هذا البلد كأكبر مصدر للجهاديين. إذ تقدر تلك التقارير أعدادهم بما يناهز خمسة إلى ستة آلاف جهادي منتشرون في مناطق النزاعات بسوريا والعراق وليبيا، كما تفيد تلك التقارير بأن المئات منهم يحملون جنسيات أوروبية.
وظلت وسائل الإعلام الألمانية تتابع بقلق المخاوف المتزايدة في أوروبا من دور الجهاديين التونسيين، خصوصاً بعد حادث الإعتداء الرهيب بالدهس من قبل تونسي على مقصد سياحي كبير في مدينة نيس الفرنسية في يوليو/ تموز 2016. بيد أن الصدمة الكبيرة في ألمانيا، ستحدث عندما نفذ التونسي أنيس العامري حادث إعتداء بالدهس يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2016، على سوق لعيد الميلاد في برلين، الذي يعد أسوأ حادث إرهابي تشهده البلاد.
صدمة وغضب في ألمانيا
قبل حادث إعتداء برلين، لم تكن صورة تونس لدى الرأي العام الألماني، في أحسن أحوالها. فقبل عام واحد من اعتداء برلين، وفي عز أزمة اللاجئين التي كانت تلقي بظلالها على الرأي العام في ألمانيا، شهدت مدينة كولونيا، حادث إعتداءات جنسية جماعية غير مسبوقة، وتورط فيه عشرات الشبان المهاجرين الوافدين من بلدان مغاربية.
حادث كولونيا أعقبته حملات مكثفة من قبل السلطات الأمنية على المهاجرين المغاربيين الذين رفضت طلبات لجوئهم، إضافة إلى فئة أخرى من الشبان المغاربيين المدانين في جرائم مختلفة، والتي ثار جدل إعلامي وسياسي كبير في ألمانيا عن وسمهم بعبارة "نافريس" (بالألمانية: اختصار لتسمية الأشخاص المنحدرين من شمال أفريقيا ولهم سوابق جنائية).
ورغم إعلان برلين في فبراير/ شباط 2016 عن توصلها لإتفاق مع تونس والجزائر والمغرب، بشأن تصنيف الدول المغاربية الثلاث كـ"دول آمنة"، وظهور بوادر حلحلة لأزمة ترحيل آلاف المهاجرين المغاربيين الذين رفضت طلبات لجوئهم. إلا أن وسائل الإعلام الألمانية واصلت انشغالها بهذه القضية، ويعزو محللون قلق الرأي العام الألماني إلى ثلاثة أسباب على الأقل.
أولاً: ارتفاع معدلات الجريمة في أوساط الشبان المغاربيين، حيث نشرت تقارير إعلامية عديدة بيانات من السلطات الألمانية تفيد بأن نسبة 22 في المائة من الأجانب المتورطين في جرائم بألمانيا ينحدرون من بلدان مغاربية، رغم أن نسبة المهاجرين المغاربيين لا تتجاوز 5 في المائة من مجموع المهاجرين بألمانيا.
ثانياً: البطء الشديد في عمليات إعادة الأشخاص الذين صدرت بشأن إجراءات ترحيل، إلى بلدانهم، إذ تداولت وسائل إعلام ألمانية على نطاق واسع، كيف أنه في 2016 لم يتجاوز عدد المغاربيين الذين تم ترحيلهم سوى 400 شخص، وهو رقم لا يشكل سوى 5 في المائة من مجموع الأشخاص المغاربيين الذين يفترض ترحيلهم. ولخصت صحيفة "دي تسايت" في عددها ليوم 12 يناير/ كانون الثاني الماضي هذه المشكلة بعنوان مليء بالمرارة: "أغلبية الشمال أفريقيين الذين تُرفض طلبات لجوئهم لم يرحلوا"، وعزت ذلك إلى عراقيل من البلدان المغاربية وتعقيدات الإجراءات الألمانية.
ثالثاً: وإذا كان العنصران الأول والثاني يشملان البلدان المغاربية الثلاثة، المغرب والجزائر وتونس، فإن العنصر الثالث تُسلط فيه الأضواء على تونس بشكل أكبر، ويتعلق الأمر بحالات الأشخاص الذين يتعين ترحيلهم، بسبب تصنيفهم كعناصر خطيرة. وقد ساهمت حالة الشد والجذب بين السلطات الألمانية والتونسية بصدد ملابسات عدم ترحيل أنيس العامري منفذ اعتداء برلين، في غضب كبير بألمانيا، وسط تزايد المخاوف من اعتداءات إرهابية جديدة.
ووصف موقع مجلة "دير شبيغل" هذه الحالة في عدده ليوم 13 يناير/ كانون الثاني الماضي بـ "المعضلة التونسية"، وفي عدده ليوم 2 فبراير/ شباط الحالي، نقل موقع "فوكوس" الألماني عن وزير داخلية ولاية هيسن، بيتر بويث، المنتمي لحزب المستشارة ميركل (المسيحي الديمقراطي)، تعليقه على حملة السلطات في الولاية قائلاً: "إننا نوجه رسالة واضحة" تتعلق بتعثر عمليات ترحيل أشخاص مشتبهين بالإرهاب إلى تونس.
ميركل لم تفقد الأمل في "المشروع الواعد"
ولطمأنة الرأي العام الألماني ظلت المستشارة أنغيلا ميركل منذ حادث الاعتداء، تشدد في تصريحاتها على ضرورة تسريع إجراءات ترحيل التونسيين. لكن مهمة المستشارة ميركل، التي تستقبل رئيس الوزراء يوسف الشاهد الثلاثاء (14 فبراير/ شباط 2017) في برلين، تزداد صعوبة، في ظل ارتفاع الأصوات المطالبة باستخدام المساعدات الاقتصادية كوسيلة ضغط على الحكومة التونسية لدفعها إلى التعاون في ملف ترحيل ما بين 1000 إلى 2000 تونسي، وظهور صعوبات أمام مقترح ألماني بفتح مراكز إستقبال اللاجئين في تونس.
وبالمقابل فإن حكومة الشاهد - وهي أحوج ما يكون إلى استمرار الدعم الألماني - تبدو قليلة الحيلة وذات "يد قصيرة"في بلد يواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية جمة، وتصل فيه معدلات بطالة الشباب إلى 30 في المائة في بعض المناطق الفقيرة وخصوصاً تلك التي انطلقت منها الثورة. وتأتي تونس في الرتبة 76 في سلم الفساد حسب ترتيب منظمة الشفافية العالمية، وقد حذر رئيس هيئة مكافحة الفساد بتونس، شوقي الطبيب، من "تحول تونس إلى دولة مافيات".
كما تشكل قضية عودة الجهاديين التونسيين من مناطق النزاع عبءاً كبيراً على الحكومة التونسية ومصدر إحراج لها حتى لدى أوثق شركائها الأوروبيين: ألمانيا. فقد رفع متظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بالعاصمة تونس لافتة كبيرة كُتب عليها "أنغيلا ميركل..تونس ليست مكب نفايات لألمانيا"، وتداولت وسائل إعلام ألمانية باستياء صورة شعار المظاهرة، الذي تم فيه الربط بين ترحيل تونسيين من ألمانيا ومسألة عودة الجهاديين التي تلقى رفضاً من قطاعات في الرأي العام التونسي.
وبينما تتعرض صورة تونس في الإعلام الألماني إلى خدوش ملحوظة في عام انتخابي صعب على المستشارة ميركل، فإن رسالتها الأسبوعية المتلفزة على الإنترنت، حملت إشارات على أنها ما تزال لم تفقد الأمل في نجاح "الإستثناء التونسي".. "المشروع الواعد" الذي استثمرت فيه ألمانيا الكثير.