تحليل: هل يحل الركود محل الازدهار والمعجزات الألمانية؟
٢ أغسطس ٢٠٢٢قلائل جدا أولئك الذين توقعوا إصابة الاقتصاد الألماني بالركود، لاسيما وأنه صاحب معجزات اقتصادية عديدة على مدى أكثر من نصف قرن مضى. هذه المعجزات تحقق بعضها حتى في وقت كان فيه العالم يمر بمحن قاسية كالأزمة المالية العالمية الأخيرة التي عانت منها أوروبا بقسوة خلال العقد الماضي. آخر البيانات الصادرة عن مكتب الاحصاءات الاتحادي أظهرت أن الناتج المحلي الإجمالي الألماني لم يحقق أي نمو خلال الربع الثاني من العام الجاري 2022 مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. يأتي ذلك في الوقت الذي وصلت فيه معدلات التضخم إلى مستويات مخيفةوغير مسبوقة تراوحت بين 5 و 9 بالمائة خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام الجاري. وخلال الربع الأول من هذا العام لم تتجاوز نسبة النمو 0,8 بالمائة. وتذهب توقعات صندوق النقد الدولي إلى أن معدل نمو الاقتصاد الألماني هذه السنة سيكون فقط بحدود 1,2 بالمائة.
هل الانكماش شر لا بد منه؟
مكتب الاحصاءات الاتحادي ذكر في تقريره الأخير أيضا عن النمو في ألمانيا، أن أسباب الركود تعود إلى الظروف الاقتصادية العالمية الصعبة التي ترافقها جائحة كورونا وإلى تعطل سلاسل التوريد وارتفاع الأسعار. كما تعود إلى تبعات الحرب في أوكرانيا وسياسة العقوبات والعقوبات المضادة التي يرافقها ارتفاع أسعار الأغذية والطاقة بشكل جنوني. وهو الأمر الذي يزعزع الثقة في أكبر اقتصاد أوروبي ورابع أكبر اقتصاد عالمي. وحسب باحثي معهد النمو وبحوث التسويق/ جي اف كي ونقلا عن موقع "شبيغل أونلاين" فإن انخفاض ثقة المستهلك الألماني باقتصاده وصل إلى أدى مستوى له على الإطلاق. وهو الأمر الذي يدفعه إلى التقشف وشد الأحزمة في شراء مستلزمات حياته اليومية من الأغذية والسلع الاستهلاكية الأخرى. ويدل على ذلك تراجع مبيعات التجزئة في النصف الأول من العام الجاري بنحو 9 بالمائة، وهذه هي النسبة الأعلى من نوعها منذ نحو ثلاثين سنة.
ولا يبدو الوضع ورديا على صعيد الشركات، لاسيما التي تعتمد على التصدير، ففي تحليل لغرفة التجارة والصناعة الألمانية شمل 3500 شركة، تبين أن 25 بالمائة بصدد تخفيض الإنتاج أو التخلي عن جزء من مجالات عملها. كما تبين أن 50 بالمائة منها تخطط لخطوات مشابهة. وفي سياق متصل يفيد استقصاء معهد إيفو الأخير أن تدهور ثقة الشركات بمناخ الأعمال الخاص في ألمانيا وصل إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من عامين. وصرح رئيس المعهد كليمنس فويست أن "ألمانيا تقف على عتبة الركود" لاسيما بسبب ارتفاع أسعار الطاقة. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك ويرى أنه لن يكون هناك مفر من الانكماش في حال توقفت إمدادات الغاز الروسية.
الاقتصاد الألماني وأزمته البنيوية
يعاني الاقتصاد الألماني من ضعف معدلات النمو تارة والركود تارة أخرى، حتى قبل اندلاع جائحة كورونا في ربيع 2020. ومن الأسباب الوجيهة لذلك المشاكل البنيوية التي يعاني منها منذ عقود حيث اعتادت شركات كثيرة في مختلف القطاعات على الدعم الحكومي الذي أثر سلبا على إعادة هيكلتها وتحسين قدراتها على المنافسة. وخلال جائحة كورونا تمتعت آلاف الشركات بسخاء هذا الدعم بفضل سياسيات التيسير النقدي للبنك المركزي الأوروبي وحزم الإنقاذ والمساعدات الضخمة التي وصلت قيمتها إلى نحو 2 تريليون يورو على مستوى الاتحاد الأوروبي. وقد مكن هذا الدعم غالبية لشركات من الصمود أمام الجائحة، ولكن فقط لفترات محدودة، لأن الإصلاحات الضرورية ما تزال معلقة.
واليوم تأتي أزمة الغاز ومصادر الطاقة الأخرى بسبب الحرب في أوكرانيا لتزيد من حدة الأزمة البنيوية للاقتصاد الألماني الذي اعتمد في ازهاره سابقا على مصادر طاقة رخيصة من روسيا وصادرات صناعية شهدت أزدهارا لا مثيل لها في سنوات العولمة التي ولى عهدها على ما يبدو. وتصيب الأزمة بشكل خاص الشركات التي تعتمد في موادها الأولية على الخارج والتي كانت قادرة على المنافسة في السوق العالمية حتى أمام البضائع الصينية والآسيوية.
ولا تكمن الأزمة في احتمال توقف إمدادات الغاز التي يمكن الحصول عليها أيضا في السوق الحرة، بقدر ما تكمن أيضا في ارتفاع الأسعار إلى أربعة أمثالها وربما إلى غير رجعة. ومن ذلك تحجيم قدرة الشركات الألمانية على المنافسة أمام الشركات الصينية والهندية والشركات من الدول الأخرى التي تحصل على مصادر الطاقة الروسية والإيرانية وغيرها بأسعار تقل بحوالي 20 إلى 30 بالمائة عن مثيلتها في الأسواق العالمية.
تفويت فرص الاستثمار في قطاعات حيوية
ساعد الدعم الحكومي الشركات على الاستمرار والحفاظ على أماكن العمل فيها وعلى تجنب الاحتجاجات الاجتماعية. غير أن هذا الدعم فوت فرص القيام بعمليات إصلاح ضرورية في الوقت المناسب على صعيد القطاع الخاص. وعلى صعيد القطاع العام تم أيضا تفويت فرصة تحديث البنى التحتية وقطاعات حيوية مثل الطاقات المتجددة والاتصالات والخدمات الصحية وغيرها. يُضاف إلى ذلك أن الدعم المذكور لم يساعد في التخفيف من اعتماد الاقتصاد الألماني بشكل كبير على التصدير إلى أسواق غير واعدة بالنسبة للصناعة الألمانية مثل السوق الأمريكية وأسواق شرق آسيا.
وزاد الطين بلة تأخر الحكومات الألمانية على مدى العقدين الماضيين في ضخ الاستثمارات اللازمة في مؤسسات القطاع العام الحيوية. أما خطط حكومة المستشار أولاف شولتس الحالية الطموحة للقيام بذلك فسوف تواجه مصاعب متزايدة في تنفيذ خططها بسبب نقص العمالة المؤهلة وتبعات الحرب الأوكرانية. وإضافة إلى التأخر في تحديث القطاعات الحيوية فإن صناع القرار فوتوا كذلك فرص تحفيز الطلب الداخلي والأوروبي على المنتج الألماني من خلال تخفيض الضرائب مثلا، لاسيما وأن النزاعات التجارية كانت تزداد حدة وخاصة منذ عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
إنقاذ الوضع مرتبط بالسياسة الاقتصادية
على ضوء ما تقدم ولأن نمو الاقتصاد الالماني مرتبط إلى حد كبير بأسعار طاقة رخيصة وبازدهار الصادرات منذ عقود، بمكن القول أن الركود مستمر في ألمانيا طالما استمرت الظروف القائمة حاليا. فالمسالة إذا ليست مؤقتة إلا إذا حصلت معجزة تعيد أسعار مصادر الطاقة إلى مستويات ما قبل الجائحة والحرب. وإذا كان منطق الاقتصاد يستبعد حصول معجزات من هذا النوع في المدى المنظور على الأقل، فإن الفرصة أمام الاقتصاد الألماني في الوقت الحالي للتخفيف من حدة المشاكل القادمة تكمن في الإسراع بإعادة هيكلة القطاعات المترهلة والتوقف عن الدعم الحكومي السخي الذي لا يساعد الشركات على تصحيح أوضاعها بقدر ما يساعدها على تأجيل البت في مشاكلها المتراكمة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ألا تؤدي إعادة هيكلة كهذه إلى إفلاس آلاف الشركات وتسريح العاملين لديها، لا بل وإلى احتجاجات اجتماعية تهدد السلم الاجتماعي في هذا الظرف السياسي الحساس لألمانيا؟ إن مثل هذه المخاوف محقة بالطبع، غير أن الأمر مرتبط وبشكل جوهري بمدى نجاعة السياسة الاقتصادية في تحويل العاملين في الشركات والمؤسسات المضطرة إلى التخلي عن عمالتها في إطار عملية الإصلاح إلى القطاعات التي تبحث ليل نهار عن الكفاءات المتوسطة والعالية. وتذهب التقديرات الحالية إلى وجود أكثر من مليون وظيفة شاغرة في مختلف قطاعات الاقتصاد الألماني. ومن حسن حظ ألمانيا أن اقتصادها شديد التنوع في الخدمات والانتاج السلعي على حد سواء. كما أنه معروف بقدرته العالية على التكيف مع الظروف الطارئة كتلك التي حدثت بعد انهيار جدار برلين ومعه ألمانيا الشرقية سابقا واقتصادها.
ابراهيم محمد