تحليل: هل أضحت رفاهية غالبية سكان ألمانيا في خبر كان؟
١٣ يوليو ٢٠٢٢في حلقة الأسبوع الأول لشهر يوليو/ تموز الجاري من البرنامج السياسي الحواري الواسع الانتشار في ألمانيا "مايبرت إيلنر" سألت مقدمة البرنامج المستشار الألماني أولاف شولتس ما إذا كانت ألمانيا مقبلة على إفلاس اقتصادي، فكان جوابه " بالطبع لا، كل التوقعات تشير إلى أننا سنتمكن من العودة إلى مستوى ما قبل كورونا خلال فترة قصيرة؛ شريطة عدم توسع رقعة الحرب في أوكرانيا وحصول انهيارات اقتصادية عالمية لا يمكن السيطرة عليها".
وفي معرض إجابته على أسئلة المواطنين الذي شاركوا في الحلقة التي دارت حول تبعات الحرب في أوكرانيا وكورونا وتغيرات المناخ، شرح المستشار كيف أنه شخصيا وقف وما يزال ضد فرض عقوبات على الغاز الروسي، كما شرح بكثير من التعابير الفضفاضة والمطاطة كيف تستعد حكومته لمواجهة عدة سيناريوهات لتجنب عواقب كارثية على الاقتصاد الألماني وخاصة في الصناعات والحرف التي تُعد عصبه الأساسي.
سؤال جوهري مر مرور الكرام!
مرّ سؤال مقدمة البرنامج مايبرت إيلنر الذي يحمل البرنامج اسمها مرور الكرام، لاسيما وأن الكثيرين يرون أن العواقب الكارثية حلت بالفعل على نطاق واسع يشمل الشركات والعائلات والأفراد جنبا إلى جنب. ولا يقف وراء هذا الرأي تزايد سرعة تراكم المديونية وحسب، بل ايضا تبعات الحرب المستمرة في أوكرانيا وقبلها تبعات جائحة كورونا. فحجم الديون الحكومية الألمانية حاليا يقترب من 2,4 تريليون يورو، وهذا رقم مرتفع بالنسبة إلى ألمانيا المعروفة بسياساتها المالية المحافظة، لاسيما وأنه يشكل نحو 65 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
إضافة إلى ذلك يعاني هذا الاقتصاد من معدلات التضخم العالية التي تراوحت بين 7 و 9 بالمائة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وتُعد هذه نسب مرعبة في بلد بقي لعقود أبرز أبطال الاستقرار الاقتصادي في العالم.
وإذا كان الاقتصاد الألماني بعيدا عن الإفلاس في المدى القصير، حسب معاهد الاقتصاد الألمانية والمؤسسات الدولية المتخصصة، فإن التطورات الاقتصادية الدراماتيكية التي نشهدها منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا على صعيد ارتفاع أسعار مصادر الطاقة والمواد الأولية والأغذية تجعل التطورات المستقبلية مفتوحة على كل الاحتمالات وتهدد المزيد من الشركات بالإفلاس. فأسعار الغاز تضاعفت أكثر من مرة خلال أقل من سنة وارتفعت تكاليف الإنتاج بنسب تتراوح بين 30 و 70 بالمائة. وهو الأمر الذي لا يؤدي إلى توقف هذه الشركات عن العمل بشكل كلي أو جزئي وحسب، بل أيضا وبشكل غير مسبوق إلى تراجع المستوى المعيشي لشرائح واسعة من المجتمع الألماني بمن فيها شرائح الطبقة الوسطى.
وتذهب تقديرات إلى أن على العائلات وحسب عدد أفرادها في ألمانيا تحمّل تكاليف إضافية تتراوح بين 3 و 5 آلاف يورو قبل مرور الشتاء القادم على ضوء ارتفاع أسعار الطاقة. وعلى الرغم من أن الدعم الحكومي الأخير بقيمة 30 مليار يورو للنقل العام واستهلاك الطاقة خفف بعض الشيء من وطأة جنون الأسعار، فإن نطاق الخوف من الفقر وعدم القدرة على دفع فواتير الطاقة والتدفئة وتكاليف الحياة اليومية مع حلول الشتاء القادم أضحى كابوسا يؤرق ملايين الألمان هذه الأيام. كما تزداد مخاوف هؤلاء من شتاء قارس مع إعلان أكثر من جهة عزمها على تخفيض درجات حرارة التدفئة إلى أقل من 20 درجة. وهذا هو على سبيل المثال حال شركة "فونوفيا" العملاقة للمساكن والعقارات التي تنوي جعل هذا التخفيض بحدود 17 درجة في ليالي الشتاء القادم.
نقص الطاقة ومخاطر "سكتة دماغية"
ويزداد الخوف أكثر فأكثر عندما يتعلق الأمر بمخاطر الإفلاسالتي تهدد بشكل خاص أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي قسم كبير منها عائلية، والتي توفر أكثر من ثلثي فرص العمل في ألمانيا. وهو الأمر الذي عبرت عنه في حلقة البرنامج المذكورة أعلاه "عائلته شتيبلنغ" التي تملك مخبزا في ولاية تورنغن أبا عن جد منذ نحو قرن من الزمن. فقد ذكرت العائلة أن تكلفة إنتاج قطعة الخبز الصغيرة "بروتشن" على سبيل المثال ارتفعت لديها من 20 إلى 70 سنت، ما يعني ابتعاد الزبائن عن شرائها بشكل وضع المخبز على حافة الإفلاس.
وإذا كان المخبز قد نجا حتى الآن بأعجوبة من الإفلاس كما يقول رب العائلة شتيفين شتيبلنغ، فإن الإغلاق الكلي أو الجزئي حل فعليا بالكثير من الشركات والمؤسسات التي لم تستطع تحمل ارتفاع تكاليف الإنتاج وأسعار الطاقة. وتتوقع دراسة لمؤسسة "اليانس ترايد" ارتفاع عدد الشركات التي ستشهر الإفلاس من 14600 هذه السنة إلى 16100 شركة خلال السنة القادمة 2023. ويجمع المحللون على أنه لولا الدعم الحكومي بعشرات مليارات اليورو منذ اندلاع جائحة كورونا لكانت حالات الإفلاس أكثر وأسرع، ولكان نطاق الفقر أوسع والاضطرابات الاجتماعية أمر حاصل.
وهنا تكمن المشكلة في أن هذا الدعم يقترب من نهايته على ضوء الالتزامات والأعباء المتراكمة التي استنزفت احتياطات الدولة خلال فترة كورونا والحرب في أوكرانيا. أما الأسوأ من كل هذا فهو احتمال توقف إمدادات الغاز الروسي بشكل نهائي وعجز الحكومة عن توفير بديل بالسرعة اللازمة. ومما يعنيه ذلك احتمال انقسام المجتمع وخطر حصول "فوضى" ومعاناة الاقتصاد من "سكتة دماغية" ومعاناة الملايين من الفقر في الشتاء القادم على حد تعبير رئيس وزراء ولابة بافاريا ماركوس زودر في مقابلة مع محطة التلفزيون الألمانية الأولى (ARD).
الاقتصاد الألماني وتحديات غير مسبوقة
مثل هذا الخوف يعيدنا إلى سؤال مايبرت ايلنر حول مدى خطر الإفلاس؟ مما لا شك فيه أن الاقتصاد الألماني الذي يعد بطل الاستقرار في أوروبا ما يزال يقف على أساس متين. فمستوى المديونية على سبيل المثال لا يزال أقل بكثير من مستواه في فرنسا والولايات المتحدة واليابان وإيطاليا وغيرها من البلدان الصناعية. غير أن هذا الاقتصاد يواجه تحديات غير مسبوقة لا تقتصر علىتراجع إمدادات الطاقة وارتفاع الأسعار. فالعديد من هذه التحديات مرتبط باعتماده على الطاقة الروسية أكثر من أي اقتصاد أوروبي آخر من جهة، وعلى مدخلات الانتاج من الخارج وعلى الصادرات إلى خارج منطقة اليورو وخاصة إلى الصين والولايات المتحدة من جهة أخرى.
ومع تراجع إمدادات الطاقة والركود العالمي وانقطاع سلاسل التوريد وارتفاع الأسعار تتراجع هذه الصادرات التي شكلت عماد ازدهار ألمانيا على مدى أكثر من نصف قرن. في هذا السياق تفيد مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار بأن نسبة هذا التراجع زاد على 7 بالمائة خلال العام الماضي. وتذهب التقديرات إلى أن الانخفاض سيكون أعلى بكثير هذه السنة.
توجه جديد ولكن إلى أين؟
يجمع المحللون على أن الوضع لن يعود إلى ما كان عليه الحال قبل الحرب في أوكرانيا وأزمة كورونا، ما يعني ضرورة إعادة توجيه الاقتصاد الألماني نحو أسواق جديدة. وعلى ضوء التطورات التي يشهدها الاقتصاد العالمي فإن هذا التوجه ينبغي أن يضع نصب عينيه السوقين الألماني والأوروبي على حد تعبير هينريك مولر المحلل الاقتصادي في موقع "شبيغل اونلاين" الألماني.
ومن ضمن ما يعنيه التوجه الجديد دعم الطلب على السلع الألمانية في الفضاء الأوروبي من خلال إجراءات وسياسات جديدة تعزز القدرة الشرائية للناس وتدعم الإبداع في مجال إيجاد بدائل لمدخلات الانتاج المستوردة. وهنا يمكن على سبيل المثال تخفيف الأعباء الضريبية التي تصل إلى 45 بالمائة من دخل بعض الشرائح و 30 بالمائة من دخل الغالبية في ألمانيا والعديد من دول منطقة اليورو.
تحاول الحكومة الألمانية على ضوء أزمة الطاقة المتفاقمة إنشاء "مظلة حماية" للشركات المتعثرة في قطاع الغاز والمحروقات الأخرى، غير أن ممثلي المعارضة يشتكون من البطء في اتخاذ الإجراءات اللازمة على هذا الطريق ومن ضعف التنسيق الأوروبي في هذا المجال. وفي كل الأحول وبغض النظر عن مستوى نجاح الحكومة مستقبلا، فنحن مقبلون على التقنين في مجال الطاقة وعلى المزيد من التراجع في مستوى المعيشة وخاصة لدى أصحاب الدخل المحدود ومتوسطي الدخل.
ابراهيم محمد