تاريخ ألمانيا الحديث يكاد يكون مطبوعاً بعقلية المعجزة، أو ما يطلق عليه في عالم كرة القدم "المستحيل ليس ألمانيّاً". حدثت المعجزة الأولى بإعادة إعمار ألمانيا بعد دمار الحرب العالمية الثانية، وتكررت المعجزات في ميادين الاقتصاد والصناعة والرياضة والبيئة، ولم يكن الساسة دوماً بعيدين عن جني مكاسب المعجزات أو دفع ثمن الكوارث. بيد أن ما حدث نتيجة كارثة الفيضانات التي ضربت ألمانيا خلال يومين من منتصف شهر يوليو/ تموز 2021، تكشف عن حقائق صادمة وربما غير مسبوقة في تاريخ ألمانيا الحديث.
هل ألمانيا مُقبلة على فراغ قيادي؟
"فيضانات القرن"، "فيضانات الموت"، "كارثة الفيضانات": مسميّات عديدة أطلقت في القاموس الإعلامي الألماني على الفيضانات التي تسببت فيها عاصفة "بيرند"، والتي وُصفت بأنها الأسوأ منذ 60 عاماً على الأقل. المستشارة أنغيلا ميركل قالت إنها لا تجد العبارات المناسبة في اللغة الألمانية لوصف ما حدث من قوة هائلة لمياه الفيضانات وما خلّفته من حصيلة ضحايا بشرية ومن دمار في المباني والبنى التحتية.
جاءت فيضانات 2021 قبل شهرين فقط الانتخابات العامة، فيما يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه. منذ عقود تزامنت أزمات الفيضانات مع صعود أو سقوط ساسة ألمان في سباق الانتخابات، فما حدث قبل حوالي عشرين عاماً، عندما حسم المستشار السابق، غيرهارد شرودر، الانتخابات لصالحه بفضل تفاعله السريع مع فيضانات ولاية ساكسونيا، عندما ارتدى جزمة مطاطية وخرج لمواجهة الأزمة، ليظهر بمظهر المسؤول الحازم في إدارة الأزمة ببلدة غريما الشرقية الصغيرة، فكانت ردود فعل الناخبين بشكل عام في ألمانيا إيجابية لصالح حزبه الديمقراطي الاشتراكي، على حساب مرشح التحالف المسيحي المحافظ، إدموند شتويبر، الذي دفع ثمن تأخر رد فعله إزاء الأزمة.
وفي مواجهة الأزمة الحالية، يبدو أن المرشحين الأساسيين الثلاثة قد خسروا نقاطاً في السباق على خلافة المستشارة ميركل. وفي غياب مؤشرات على كسب نقاط، ربما جاز البحث عمن كانت خسارته أقل من الآخر.
فالمرشح الإشتراكي الديمقراطي أولاف شولتز، وزير المالية الذي يتولى أيضاً منصب نائب المستشارة، سارع إلى قطع إجازته والتوجه إلى ولاية راينلاند بفالتس لمؤازرة سكان الولاية الأكثر تضرراً بالفيضانات، وعلى رأسهم رئيسة وزرائها مالو دراير وزميلته في الحزب، وكان مبادراً إلى إعلان تعويضات مالية فورية للمتضررين. لكن وتيرة تراجع حزبه التاريخية منذ بضع سنوات قد تضعه كمن يدفع المياه للصعود في مرتفع، أو كما يُعبر عنه في مثل شعبي تونسي "يحب يطلّع الماء في الصَّعدة".
أما المرشح المسيحي الديمقراطي، آرمين لاشيت، رئيس وزراء ولاية شمال الراين وستفاليا، والذي يوصف في وسائل إعلام ألمانية عديدة بالمرشح الأوفر حظاً لخلافة المستشارة ميركل، فقد جاءته الفرصة بين يديه لإظهار قدراته القيادية في إدارة أزمة الفيضانات، التي ضربت بعنف ولايته. لكن أداء لاشيت انطوى على تناقضات في التعامل مع تطورات الأزمة، وزاد الطين بلّة بارتكابه خطأ فادحاً عندما فاجأ المتابعين لخطاب الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، خلال زيارة ميدانية لبلدة إيرفتشتات المنكوبة، وتبادل الضحكات خلف الرئيس، وهو ما قد يكلفه غالياً رغم اعتذاره عن ذلك. ففضلاً عن اعتباره تصرفاً غير مناسب في لحظة حزينة ومأساوية، بدا لاشيت كمن فقد السيطرة في لحظة كان يفترض فيها كرجل دولة أن يتسم بالتحكم في مشاعره، مما جعل كثيراً من المعلقين الألمان يشككون في مواصفاته كرجل دولة، ونصحه أحدهم بأن يتعلم من المستشارة ميركل احترافيتها السياسية في التحكم بمشاعرها خلال الأزمات.
ولم تقتصر معضلة لاشيت في أخطاء تواصلية مع الجمهور خلال الأزمة، بل في تباين مواقفه وسياساته إزاء أكبر تحدّ يواجه ألمانيا والعالم، وهو تحدي تغير المناخ. ولأن هذا الملف يعتبر الملعب المفضل لمنافسته، مرشحة حزب الخضر أنالينا بيربوك، فقد شكلت الهفوات والسلبيات التي سُجلت على المرشح المسيحي الديمقراطي هدية انتخابية للمرشحة المدافعة الشرسة عن البيئة وحماية المناخ، إذ كان يمكن لأخطاء لاشيت أن تشكل طوق نجاة لمنافسته لتخرجها من دوامة التراجع الذي سجل لها في استطلاعات الرأي، بعدما حققت طفرة إيجابية إثر إعلان ترشيحها. لكن ضعف خصالها القيادية حرمها مرة أخرى من كسب نقاط في السباق، بل واصلت التراجع.
ففي أحدث استطلاع للرأي أجري حول المواصفات القيادية للمرشحين في الانتخابات المقبلة، سجلت بيربوك أسوأ نتيجة، إذ لم تحصل سوى على 15 في المائة من أصوات المستطلعة آراؤهم، يتبعها المرشح الاشتراكي أولاف شولتس بحصوله على 13 في المائة.
ورغم الأخطاء التي وقع فيها خلال أزمة الفيضانات، جاء المرشح المسيحي الديمقراطي آرمين لاشيت متقدماً بحصوله على نسبة 18 في المائة، يليه المرشح الليبرالي كريستيان ليندنر بنسبة 17 في المائة.
واعتبرت صحيفة "فيرتشافت فوخه" (الأسبوع الاقتصادي) في عددها يوم الخميس (22 يوليو/ تموز 2021)، أن تراجع بيربوك بـ11 نقطة مئوية مقارنة باستطلاعات شهر أبريل/ نيسان الماضي، يعدّ مؤشراً على "نهاية طفرة بيربوك".
كما سلّطت قصة ضحكة آرمين لاشيت، التي أخذت حيزاً كبيراً من الجدل السياسي والإعلامي، من جهة، والسلبيات التي وقعت فيها منافسته أنالينا بيربوك من جهة أخرى، الضوء على الفراغ القيادي الذي يمكن أن يخلفه رحيل المستشارة ميركل عن سدة الحكم، بعد أكثر من عقد ونصف أظهر فيه قدرات قيادية وكاريزما نادرة، وهذه هي الحقيقة المُرّة الأولى التي استيقظ عليها الألمان خلال الأزمة الأخيرة.
لكن نبوءة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، التي تقول إن حقب القيادات الكاريزماتية تعقبها حالة من الفراغ قد تؤدي للفوضى، قد لا تتحقق في بلده ألمانيا، لأن ما فرّط فيه الساسة وفقدانهم لمواصفات كاريزماتية "خارقة"، عوضته المؤسسات المدنية على المستويين المحلي والاتحادي، إضافة لمؤسسة الجيش، التي جندت مجتمعة أكثر من ثلاثين ألف عنصر مدعمين بأحدث تكنولوجيات، واشتغلت وتواصل العمل بوتيرة "الماكينات" دون كلل. كما عوضته جهود تضامنية منقطعة النظير لدى فئات المجتمع الألماني: أفراداً وهيئات مجتمع مدني وشركات ومؤسسات وشبكات تواصل اجتماعي، عبر حملات تبرع ومشاركة واسعة النطاق في جهود الإنقاذ ومساعدة المتضررين.
البحث عن أسباب الانهيار الكبير
فيضانات 2021 خلّفت في ألمانيا خسائر بشرية ومادية فادحة، وقد تكون تسمية "فيضانات الموت" غير كافية رغم ما تحمله من دلالات على الحصيلة المأساوية من حيث أعداد القتلى (170 شخصاً) والمفقودين (بالمئات) لحد الآن. فقد سجلت حصيلة أولية خسائر مادية ضخمة جداً، إذ فقد الآلاف منازلهم ودمرت عشرات البلدات بأكملها أو جزئياً، وتضررت مئات المنشآت الاقتصادية، ودمرت مئات الجسور والطرقات، وخربت الفيضات أكثر من 600 كيلومتر من شبكة السكك الحديدية و20 محطة قطارات، وتعطلت شبكات الكهرباء والاتصالات بشكل كامل في حوالي 130 مركز اتصالات وبريد. كما يواجه سكان بعض البلدات المتضررة توقفاً كلياً أو جزئياً في شبكة توزيع المياه الصالحة للشرب لأسابيع وقد تصل لأشهر.
حصلت هذه المأساة في أكبر ولاية ألمانية من ناحية السكان، إذ يسكنها زهاء 18 مليون نسمة، بالإضافة إلى ولاية راينلاد بفالتس المجاورة ذات الأربعة ملايين نسمة. وتلعب الولايتان دوراً مهماً في اقتصاد ألمانيا، إذ تساهمان بأكثر من 27 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لألمانيا، الذي يتجاوز 3.3 تريليون يورو. وتعتبر الولايتان أيضاً من أكثر ولايات ألمانيا استقبالاً للهجرة، إذ يشكل السكان من أصول مهاجرة حوالي 30 في المائة.
ورغم ما رصدته الحكومة الاتحادية وحكومتا الولايتين من تعويضات عاجلة للمتضررين بحوالي 400 مليون يورو، إلا أن إعادة إعمار المناطق المتضررة وتعويض المتضررين قد لا يقل عن عشرة مليارات يورو، فيما يتوقع اتحاد شركات التأمين أن يدفع خمسة مليارات يورو عن خسائر الممتلكات المؤمّنة.
ومن مؤشرات الخسائر والتعويضات، تظهر حقيقة أخرى مُرّة تخرج بها ألمانيا من أزمة الفيضانات، تتمثل في الانهيار المفاجئ للبنى التحتية في قرى أو بلدات بأكملها. كما أن عمليات إعادة الإعمار تتطلب في أفضل الأحوال شهوراً، وقد تمتد سنوات في بعض القطاعات، خصوصاً إعادة بناء المساكن والبنى التحتية.
يأتي كل ذلك في زمن تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد الألماني، الذي كان معدل نموه هذا العام مرشحاً للتحسن بشكل طفيف بعد التراجع الكبير الذي سجله في العام الماضي بعشر نقاط، الأمر الذي سيجعل مهمة تخصيص الموارد المالية لصندوقي تنظيف الدمار وإعمار المناطق مهمة شاقة للحكومة المقبلة (بعد الانتخابات) وحكومات الولايات.
وفيما تعمل المؤسسات الحكومية والمتخصصة على رصد الخسائر النهائية التي تكبدتها ألمانيا جراء كارثة الفيضانات، ينكب الخبراء حالياً على تشخيص أسباب الانهيار الكبير الذي تعرضت له البنى التحتية في أكبر اقتصاد أوروبي.
كلمة السر فيما حدث بألمانيا!
من يبحث في القاموس الإعلامي والسياسي ولغة الخبراء بألمانيا، يتوقف عند كلمة "تغير المناخ" باعتبارها كلمة السر فيما حدث من كارثة، إذ تتفق معظم تقارير الهيئات المختصة في مجال المناخ على أن قوة تدفق المياه من الأمطار وعبر الأودية غير مسبوقة منذ ستين عاماً. وتشير إلى مثال في منطقة الرور، التي هطلت فيها المياه بمعدل 1470 متر مكعب في الثانية، أي 20 ضعف المعدل الاعتيادي لتساقط الأمطار.
وفي تفسيره لقوة المياه التي ضربت مناطق غرب ألمانيا، يقول ميشائيل ديتسه، الباحث في قسم الجيومورفولوجيا (علم شكل الأرض) بمركز هيلمهولتس- بوتسدام للأبحاث، في حوار مع DW، بأن "متراً مكعباً من الماء يصل وزنه إلى طن، وهذا يعني أن الماء يمكن أن يشكل ضغطاً هائلاً على أي شيء يعترض طريقه. وحين تتحرك هذه القوة، فإنها تشكل ضغطاً كبيراً على السيارات أو الحاويات وتدفعها أمامها إذا لم تكن مثبتة بشكل محكم للغاية".
وتنطبق الآثار المدمرة لقوة المياه الضاغطة على التربة والبنى التحتية أيضاً، مثل الجسور والطرقات، وتزداد قوتها التدميرية في الأودية والقنوات، كما يؤكد الخبير الألماني. فقد تعرضت بلدة آرفايلر بولاية راينلاند بفالتس لدمار شبه كامل، وتحولت بلدة إيرفتشتات إلى شبه جزيرة عائمة في المياه.
ويمكن للمرء أن يستنتج حجم الدمار والخسائر التي كانت ستحدثت في بلد فقير أو متواضع البنى التحتية، لو تعرض لمثل كارثة الفيضانات التي ضربت ألمانيا.
لكن قوة المياه التدميرية وما خلفته من أضرار لا تحجب حقائق أخرى يبحث عنها الخبراء في ألمانيا، أولها مسؤولية أنظمة الإنذار المبكر، وتقصير السلطات في التوقع والاحتياط لمواجهة الأزمة مبكراً. وثانياً، الفجوة المناخية التي حدثت نتيجة تأخر تطبيق سياسات ملائمة لتغير المناخ، وقد انعكس هذا التأخير في استمرار التخطيط التقليدي للبنايات والمدن بدون مراعاة المخاطر التي تهدد السكان جراء ظواهر الطقس المتطرفة.
عندما زارت المستشارة ميركل بلدة شولد، الأكثر تضرراً من الفيضانات، اعترفت بأن "هنالك حاجة لسياسة تراعي الطبيعة والمناخ بشكل أكبر مما قمنا به خلال الأعوام الماضية". وقد كانت تلك إحدى الدروس المريرة التي تخرج بها المرأة القوية في نهاية حقبة حافلة بالإنجازات، في محاولة منها لتوجيه إهتمام الساسة، وعلى رأسهم المرشحين المتسابقين على خلافتها، لوضع قضايا تغير المناخ في مقدمة أجندتهم السياسية. وقد يكون ذلك إيذاناً بساعة الحقيقة التي تدق على الساسة لاتخاذ قرارات طالما تفادوا الإقدام عليها، سواء كان ذلك نتيجة ضغوط لوبيات الطاقة الأحفورية الملوثة للبيئة، أو تخوفاً من ردود الفعل فئات اجتماعية قد تتضرر منها.
في مقابلة مع الخبيرة البروفيسورة لمياء المساري بيكر، المستشارة في حكومة ميركل لقضايا البيئة والمناخ، ببرنامج "مسائية DW"، مباشرة إثر كارثة الفيضانات، عزت الأضرار الكبيرة في البنى التحتية والمساكن إلى سياسات تخطيط عمراني لا تراعي استحقاقات تغير المناخ. ورغم أنها استبعدت على المدى القصير إحداث تغييرات كبيرة في تخطيط المدن ونقل فئات من السكان المهددين بظواهر المناخ المتطرفة، لم تستثن الخبيرة الألمانية اللجوء إلى هذا الخيار على المدى المتوسط أو البعيد، إذا لم تحترم متطلبات البيئة في بناء المساكن وتشييد البنى التحتية.
لا شك أن سياسة ملائمة لتغير المناخ لن تكون فعالة في ألمانيا إذا لم تتم بشكل منسق على المستوى الأوروبي، لكن ليس هذا وحده التحدي الذي يواجه ألمانيا في المستقبل، بل هنالك حاجة أيضاً إلى ترميم صورتها كبلد رائد عالمياً في "الاقتصاد الأخضر" وحماية المناخ، التي تعرضت لأضرار كبيرة جراء المشاهد المأساوية التي تناقلتها عدسات الكاميرات ومواقع التواصل الاجتماعي في العالم عن "فيضانات القرن" وهي تدمر الجسور والطرق وقرى بأكملها ومنازل ذات طراز معماري رائعة في منطقة الراين.
منصف السليمي