في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، لا يبدو الحماس ولا الأجواء ملائمة في سيدي بوزيد للاحتفال كما هو معتاد بذكرى انطلاق الشرارة الأولى لانتفاضات الربيع العربي، عندما أشعل الشاب محمد البوعزيزي في جسده النار احتجاجا على مصادرة عربة كان يبيع عليها الخضار، وعلى صفعه من طرف شرطية نهرته بعبارة فرنسية Dégage وتعني بالعربية ارحل، وهي الكلمة التي ستصبح رمزية لكن في الاتجاه المعاكس، عندما هتف بها المحتجون في شوارع تونس وعواصم عربية ضد أنظمة الحكم.
مرت 10 سنوات على الحادثة، وبدل السؤال عن الكيفية التي سيحتفل بها شباب سيدي بوزيد، يبدو السؤال الأكثر وجاهة ماذا يمكن أن يحدث في مهد الربيع العربي، فحتى فكرة خيبة الأمل والاحتجاج في الشوارع على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية السيئة قد لا تكون كافية لتلخيص المشهد الغامض الذي يمر به البلد الاستثناء من بلدان "الربيع العربي" التي تتأرجح الأوضاع فيها بين قبضة استبداد حديدية أو اضطرابات أو حرب أهلية، من سوريا إلى اليمن وصولا إلى مصر والجارة الجنوبية ليبيا.
"سيدي بوزيد بين الصبايحية والفلاقة"
أربعة أسابيع صعبة تنتظر تونس، وتفصل ذكرى حادثة البوعزيزي، التي يعتبرها طيف واسع من أنصار الثورة التونسية التاريخ الحقيقي للثورة، عن الرابع عشر من يناير/كانون الثاني، التي تؤرخ لهروب الرئيس الأسبق الدكتاتور زين العابدين بن علي على متن طائرة مع عائلته إلى السعودية، حيث توفي فيها سنة 2019.
في شارع الحبيب بورقيبة بوسط المدينة التي تقع في وسط البلاد، ما يزال نصب تذكاري للبوعزيزي، شاهدا على الثورة التي وقعت في البلد. لكن التونسيين تتباين اليوم نظرتهم للأمور.
"سيدي بوزيد اليوم بين الصبايحية والفلاقة" هكذا يلخص المدون والباحث في التاريخ بالمعهد الوطني للتراث، أمين البوعزيزي، المشهد في مدينته متحدثا لـ DW عربية. وكلمة "الصبايحية" تعني في القاموس التاريخي في بلدان شمال أفريقيا، وسطاء موالين للحكم (العثماني) وفي وقت لاحق للمستعمر الفرنسي، يتولون تجنيد موالين في مواجهة الأهالي الثائرين أوالمعارضين. وترمز العبارة ضمن السياق الحالي في تونس إلى الأعيان وأصحاب المصالح من أنصار وبقايا النظام القديم. أما كلمة "الفلاقة" ولها نفس المدلول في اللغتين العربية والأمازيغية في شمال أفريقيا، فتعني الثوار المسلحين الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي، وتُقتبس حاليا بمعنى الثوار المدنيين ضد النظام القديم.
ويستدرك الباحث بوعزيزي (لا علاقة عائلية له بمحمد البوعزيزي) قائلا إن الانقسام في واقع البلد ليس ثنائيا بشكل حاد، بل هنالك منطقة رمادية واسعة تتداخل فيها فئات أنصار النظام القديم ومؤيدي الثورة، ومع فئات أخرى.
ويلخص المشهد في سيدي بوزيد حالة الانقسام الشديد داخل الطبقة السياسية في تونس، كما يعكس أوضاع التفاوت والتباينات بين فئات المجتمع ومناطق البلاد. ولكن فئات واسعة من سكان المنطقة (سيدي بوزيد) يشعرون بمرارة خاصة، ليس فقط بسبب استمرار معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية بعد عشر سنوات من ثورة كان أبناؤهم في صفوفها الأولى وسقط منهم شهداء وجرحى، بل أيضا لأنهم يشعرون بأن خيبة أمل تلاحق منطقتهم منذ أكثر من نصف قرن، حيث أهملت دولة الاستقلال تنمية المنطقة وإقامة بنيات تحتية رغم تضحيات أجيال من أبنائها في الكفاح ضد الاستعمار.
"التنمية الجهوية" العصا السحرية!
و على غرار سيدي بوزيد تنتشر مشاعر خيبة أمل من حكومات ما بعد الثورة، في مناطق أخرى من تونس، مثل محافظات القصرين وقفصة وجندوبة وسليانة. وبقدر ما شكلت هذه المناطق بؤرة للاحتجاجات التي أدت إلى سقوط نظام بن علي، فقد باتت اليوم مناطق خصبة للاحتجاجات والاعتصامات، يستثمر فيها خصوم حكومات ما بعد الثورة، بكل ألوانهم وعلى رأسهم أنصار النظام القديم.
بينما يحاول آلاف من الشباب البحث عن خلاصهم عبر النزوح إلى الضواحي الفقيرة في العاصمة تونس وكبريات المدن الساحلية مثل صفاقس وسوسة، في انتظار فرصة لركوب رحلات الهجرة السرية نحو جزيرة صقلية الايطالية التي لا يفصلها عن سواحل تونس سوى بضع عشرات الكيلومترات. وحسب منتدى الحقوق الاقتصادية والإجتماعية (هيئة غير حكومية)، فقد قطع، خلال 11 شهرا فقط هذا العام، قرابة 12 ألف تونسي البحر عبر القوارب للوصول إلى السواحل الأوروبية عدا المئات من المفقودين.
وحتى أسرة محمد البوعزيزي (والدته وبعض أشقائه)، وبعد أن كانت تحظى بالتكريم ومشاعر الفخر في الأعوام الأولى بعد الثورة، قررت منذ سنوات الهجرة إلى كندا "هربا من المضايقات" التي تعرضت لها الأسرة بسبب ما أقدم عليه ابنها، وكان سببا في "مآلات الأحوال بالبلاد" كما يرى بعض الغاضبين من الأوضاع.
قبل أيام قليلة من ذكرى 17 ديسمبر، كان لافتا أن هشام المشيشي رئيس حكومة التكنوقراط المدعومة من أحزاب "النهضة" الإسلامية و"قلب تونس" الليبرالي وكتل برلمانية أخرى، قد عقد اجتماعا مع هيئات من المجتمع المدني بسيدي بوزيد تسهر على تنظيم الاحتفالات بذكرى مرور 10 سنوات على انطلاق الشرارة الأولى للثورة التونسية. وهيمنت على الاجتماع أجواء التوتر الاجتماعي الذي تشهده مناطق عديدة من البلاد، وخصوصا المناطق الأكثر فقرا والتي تتجاوز فيها البطالة المعدل الوطني الذي بلغ 16 في المائة.
ونقلت وسائل إعلام تونسية عن المشيشي تأكيده بأن "الوقت قد حان للعدالة الاجتماعية والجهوية وفق منظومة تنموية جهوية تلعب فيها الجهات دورا طلائعيا ومحوريا". ويبدو مصطلح"التنمية الجهوية" عبارة عن عصا سحرية تتردد حاليا في خطاب الطبقة السياسية التونسية، في محاولة منها للإجابة عن تحديات اجتماعية واقتصادية جمّة، وفي مواجهة مظاهر احتجاجية جديدة ترفع شعارات ومطالب بالاستفادة المباشرة من منشآت اقتصادية استراتيجية مثل الطاقة ومناجم الفوسفاط أو تعطيل الانتاج فيها.
إذ تواجه حكومة المشيشي، وهي ثاني حكومة يتم تشكيلها خلال عام واحد بعد انتخابات أفرزت فسيفساء من الكتل البرلمانية المنقسمة، تصاعد الاحتجاجات بمناطق عديدة بلغ بعضها حد العنف وقطع الطرق ووقف الإنتاج في منشآت اقتصادية استراتيجية، بدأت من أقصى جنوب البلاد بمنشآت إنتاج البترول والغاز في منطقة الكامور في ولاية تطاوين الحدودية مع ليبيا، وفي مناجم إنتاج الفوسفاط في ولاية قفصة (جنوب غرب) الحدودية مع الجزائر.
وامتدت أشكال الاحتجاج التي تتسم ببعض مظاهر العصيان المدني، إلى توقف وحدات الانتاج الصناعي في منطقة قابس (جنوب شرق) عن تزويد السوق بقوارير الغاز مما تسبب في فقدانها بعدد من محافظات جنوبية يقطنها حوالي ثلث سكان البلاد.
وأسفرت الاحتجاجات في قطاعات اقتصادية استراتيجية عن نزيف متواصل في الاقتصاد التونسي، وزادت من تفاقمه الأزمة الصحية الناتجة عن جائحة كورونا.
وحسب تقارير البنك المركزي التونسي وصندوق النقد الدولي، فإن معدل نمو الاقتصاد التونسي لسنة 2020 ستسجل نسبة انكماش بـ 7 في المائة، وهو أسوأ معدل نمو يشهده اقتصاد البلاد منذ استقلالها سنة 1956. وهو ما يدفع الحكومة إلى الاعتماد على دعم الشركاء الأوروبيين ومزيد من الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية.
تونس مهددة بعودة الدكتاتوية؟
ويعدّ ظهور أشكال جديدة لتنظيم الاحتجاجات، يطلق عليها التنسيقيات المحلية وتضم نشطاء وعناصر من خارج التمثيل المؤسساتي والحزبي وحتى النقابي، من أهم ملامح المشهد الاجتماعي والسياسي في تونس، إلا أن محللين في تونس يرون بأنها تحمل معها نُذر تحدٍّ كبير للمنظومة السياسية في البلاد.
فبعد عشر سنوات من الثورة، تم تشكيل ثماني حكومات، وأفرزت أحدث انتخابات تشريعية (أكتوبر تشرين/أول 2019) خارطة برلمانية مشتتة عجزت الأحزاب المتناحرة عن تشكيل أغلبية مستقرة، كما يشهد البرلمان تجاذبات بلا هوادة، وتتبادل الأحزاب ومكونات الطبقة السياسية الاتهامات بالفساد وبالمسؤولية عن ما آلت إليه أوضاع البلاد.
وحتى مركزية الاتحاد العام التونسي للشغل العريقة والنافذة، باتت متجاوَزة من طرف "التنسيقيات المحلية"، مما حدا بها إلى إطلاق مبادرة للحوارالوطني لإنقاذ البلاد، واقترحت على رئيس الجمهورية قيس سعيّد رعايتها.
وتبدو آفاق الحوار المفترض غير واضحة، في ظل خيبة الأمل السائدة في البلاد من حصيلة تجربة التوافق الوطني طيلة السنوات الخمس الماضية، وخصوصا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، الذي كان هدفا أساسيا لـ"ثورة الكرامة".
وأفلتت تونس من إنهيار أوضاعها الأمنية إثر موجة أعمال إرهابية في السنوات الأولى بعد الثورة بلغت ذروتها باغتيالات سياسية سنة 2013 لسياسيَيْن يساريين بارزين، وأعقبتها عملية توافق وطني بين الحزبين الكبيرين "النهضة" الإسلامي و"نداء تونس" العلماني الليبرالي، كان من أبرز ثمارها إقرار دستور جديد وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وتشكيل هيئة الحقيقة والكرامة.
ويواجه حزب النهضة وزعيمه راشد الغنوشي رئيس مجلس نواب الشعب، تحديا خاصا منذ رحيل شريكه في التوافق الرئيس السابق الباجي قايد السبسي وتفكك حزب "نداء تونس" إلى كتل صغيرة.
وبات إسلاميو النهضة الحزب الأول والحزب الوحيد الذي استمرت مشاركته في حكومات ما بعد الثورة، هدفا لسهام خصومهم العلمانيين اليساريين والليبراليين الذين باتوا أقرب إلى الحزب الدستوري الحر الذي تتزعمه عبير موسي، الداعية صراحة إلى إعادة منظومة بن علي وإلى محاكمة الإسلاميين ومنعهم من النشاط السياسي تحت طائلة قانون الارهاب، ويصفها عدد من أنصار الثورة وضمنهم الرئيس الأسبق منصف المرزوقي بأنها رأس حربة الثورة المضادة وبأنها تنفذ "أجندات دول في المنطقة تعمل على إسقاط الديمقراطية في تونس"، في إشارة إلى الإمارات العربية المتحدة ومصر السيسي.
"سيناريو استئصال الاسلام السياسي - ممثلا في حزب النهضة - يعني العودة إلى الدكتاتورية" يحذر الباحث في التاريخ بالمعهد الوطني للتراث، المدون أمين بوعزيزي، ويرى بأن "الصراع الأمثل مع الإسلاميين يتم عبر الديمقراطية"، مشيرا إلى فشل تجارب الحكم الدكتاتوري في هزيمة الإسلاميين.
الطبقة السياسية التونسية و"حافة الهاوية"
لا تلوح في الأفق بوادر حل للأزمة السياسية المستمرة في تونس، في ظل ظهور خلافات وتجاذبات بين ما يُطلق عليه بالرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، رئاسة البرلمان. وغياب المحكمة الدستورية أهم مرجع تعديلي في النظام السياسي.
ورغم تأكيد خطاب القوى الرئيسية في المشهد السياسي على تمسكها بالحفاظ على الديمقراطية في البلاد، إلا أن مؤشرات تراجع سلطة الدولة في مناطق ومواقع شهدت احتجاجات وأشكال عصيان مدني، تثير مخاوف على مصير الديمقراطية الناشئة وتساؤلات حول سيناريوهات تطور الأوضاع في الأسابيع القليلة المقبلة.
أمين البوعزيزي، يشبّه الأجواء التي تعيشها تونس حاليا، بالأيام العصيبة التي أعقبت "الانقلاب على الديمقراطية في مصر في صائفة سنة 2013، عندما فتحت شهية الثورة المضادة في تونس ووضعتها على مشارف تطور مرعب".
ففي ظل تنامي منسوب التوتر والاحتجاجات في البلاد، تتزايد المخاوف من تدهور أمني وسياسي، قد يعصف بالديمقراطية الناشئة وحرية التعبير ونشاط الأحزاب وهيئات المجتمع المدني، التي تعتبر المكتسبات الرئيسية التي تحققت بعد الثورة. إذ ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات من أطياف يسارية أخفقت في الانتخابات وبعض وجوه النظام السابق ومؤسسات إعلامية نافذة، تحمِّل ما يُطلق عليه بـ"منظومة ما بعد الثورة" مسؤولية الأزمة السياسية والاقتصادية، وترفع مطالب متفاونة بين الدعوة إلى اعتصامات في شكل عصيان مدني وحل البرلمان أو إلى وقف العمل بالدستور أو تعديله لتغيير النظام السياسي من شبه برلماني إلى نظام رئاسي.
دعوات وصفها رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي بدعوات "فوضوية" و"شعبوية"، لن تفلح في إسقاط المؤسسات الديمقراطية، منوها بأن الطبقة السياسية التونسية تتميز ببراغماتيتها وبأنها تنزع للحلول التوافقية حتى عندما تكون على حافة المواجهة.
بينما يكتفي الرئيس سعيّد بالتشديد على "قوة الدولة وفرض القانون" والتلويح بها، مواصلا نسق خطابه الذي مكّنه من الفوز بأغلبية ساحقة في الانتخابات الماضية، محمّلا الطبقة السياسية والأحزاب بالخصوص مسؤولية الأزمة، ومرددا مقولاته الشعبوية: "الشعب يريد" و"تغيير قاعدة الحكم لتنطلق من المحليات"، دون أن يجسدها في برنامج واضح، مما يفتح باب استنتاجات وتأويلات بوجود علاقة بين مقولاته ومبادرات "التنسيقيات" المحلية التي ظهرت في بعض مناطق البلاد.
بيد أن أمين البوعزيزي يرى تطورا آخر تشهده المنطقة "أكثر نعومة ولكنه أكثر خطورة" قد يكون محددا في مصير الانتقال الديمقراطي في تونس. إذ يعتقد الباحث التونسي أنه من المفارقة أن "التطبيع مع إسرائيل، الذي يستظل به دعاة الانقلاب على الديمقراطية، بات دعاة حماية الديمقراطية يحاولون بدورهم الاعتماد عليه"، مشيرا بأن قبول حزب العدالة والتنمية المغربي بخطوة التطبيع مع إسرائيل التي أقدم عليها المغرب، مؤشر على اتجاه أحزاب الإسلام السياسي ومن ضمنها حزب النهضة في تونس، واستعدادهم لقبول هذه العملية إذا كانت ستؤدي إلى "الحفاظ على وضعهم داخل المسار الديمقراطي".
لكن الباحث والمدون التونسي، يستدرك قائلا: "من سوء حظ أعداء المسار الديمقراطي، أن دونالد ترامب هُزم في الانتخابات الأمريكية وفاز بها الرئيس الديمقراطي جو بايدن" الذي كان شريكا للرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما في دعم الربيع العربي.
منصف السليمي