ماذا عسى أن يكفكف دموع والدي مها، في فقدان فلذة الكبد التي ماتت غرقا في سيول بوادي بفلحة في بلدة فرنانة شمال غرب تونس.. مها ق. ذات الإحدى عشرة عاما، كانت تعبر من مدرستها طريقا تغمرها مياه الأمطار.
استيقظت تونس على صدمة وفاة مها التراجيدية، وتتبادل دوائر إدارية وسياسية عديدة الاتهامات بالمسؤولية عن مأساتها. ربما تركت الفتاة اليافعة بابتسامة ونظرة بريئة منبعثة من عينيها الزرقاوين رسالة قاسية، يمكن قراءتها ولكن من الصعب الجزم بأنها ستغير شيئا في واقع مواطناتها ومواطنيها.
أطفال تونس وتراجيديا الفيضانات
فالطريق الذي كانت تسلكه مها يوميا يذكرني بطريق مسافته بضع كيلومترات كنت وأنا طفل أقطعه يوميا كي ألتحق بالمدرسة الابتدائية (العكارمة) في منطقة الرقاب. في خريف عام 1969 شهدت تونس فيضانات هي الأسوأ من نوعها في تاريخ البلاد، راح ضحيتها أكثر من خمسمائة شخص.
إبانها لم تكن لدينا وسائل التواصل التي تتيح تداول المعلومات التي تبثها مصالح الأرصاد الجوية أو بيانات حكومية لنعرف إن كانت وزارة التربية قد قررت إغلاق المدارس، ولذلك فقد كان والدي رحمه الله حريصا على عدم غيابي عن الفصل وقرر أن يأخذني على كتفيه، وقطع مسافة ثلاثة كيلومترات وسط المياه والأوحال، حتى أوصلني إلى باب القسم بالمدرسة حيث علم أن وزارة التعليم قررت إغلاق المدارس تحت وطأة كارثة الفيضانات.
لم تتغير قيمة العلم عند العائلات التونسية، فقد ورثتها أبا عن جد من كتاتيب القرآن المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد وفروع جامع الزيتونة وغيره من منارات العلم ومعالمها الحضارية. وفي ظل دولة الإستقلال، رسخ الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قيمة العلم وأهمية التعليم، وعلى أساسه شيد منوال تنمية تونس الحديثة.
والد مها ووالدتها، بدورهما متشبعان بأهمية التدرج في مسالك العلم، ويجدان فيه السبيل الوحيد كي يكون حال ابنتهما مها وأحوال الأسرة الفقيرة، أفضل من حال الوالدين. لكن والد مها لا يستطيع القيام من مقعده وهو من ذوي الإحتياجات الخاصة، ووالدتها تمضي وقتها تحتطب في الجبل من أجل توفير الحد الأدنى لإعالة أفراد الأسرة.
مسؤولية من؟
وهاهي الفتاة اليافعة المُقبلة على العلم والمتأمِّلة في مستقبل أفضل لها ولأسرتها، تلقى حتفها وهي تقاوم السيول الجارفة دون منقذ. فعلى من يا ترى تقع مسؤولية مأساة هذه الفتاة؟
هل تتحمل وزارة التعليم المسؤولية لعدم إبلاغها مبكرا بإغلاق المدارس في المناطق المنكوبة؟ أم هي الإدارة المحلية بمعتمدية فرنانة وبولاية(محافظة) جندوبة؟ أم مصالح الأرصاد الجوية؟ أم هي وسائل الإعلام وخصوصا العمومية منها(التلفزيون والإذاعة)؟ أم هي وزارة التجهيز لتقصيرها في تعبيد الطرق المؤدية للمدارس؟ أم تقع المسؤولية على الساسة وكبار المسؤولين في الحكومة؟
زائر تونس لا يحتاج جهدا كبيرا ليلاحظ الفوارق الإقتصادية والاجتماعية التي تشق البلاد. الطريق التي غرقت فيها مها، توجد ببلدة فرنانة بولاية جندوبة المعروفة بكونها من أفقر ولايات الجمهورية التونسية. وهذه الطريق تشبه كثيرا تلك التي خبرتها ببلدتنا في الرقاب بولاية سيدي بوزيد، وأنا صبي بين بيتنا والمدرسة. مضت الآن خمسون سنة على فيضانات 1969، وتلك الطريق لم تُهيَّأ لتصبح ملائمة لتنقل الأطفال إلى المدرسة، وحتى سائقو السيارات يتفادون أن يسلكوها بسبب كثرة المطبات، وهي تصبح أسوا مع الأوحال. وتتعرض تونس تقريبا كل خمس سنوات إلى كوارث بسبب فيضانات الأودية والسيول التي تغمر القرى والمدن، بما فيها العاصمة، دون أن تظهر بوادر إصلاحات للبنيات التحتية والتجهيزات وطرق تدبير مشكل المياه المتفاقم سواء بندرته أو بفيضاناته.
وتتشابه أوضاع مناطق الشمال الغربي والجنوب الغربي ووسط تونس، في البؤس الاجتماعي وضعف البنيات التحتية وغياب الاستثمارات الواعدة بالتنمية. ومن ولايات جندوبة وسيدي بوزيد والقصرين وسليانة وحتى قفصة الغنية بالفوسفاط أهم مواد خام تصدّرها تونس، من هذه المناطق انطلقت الثورة سنة 2011 ضد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، الذي كان يتباهى بإنجازاته التنموية مركزا على خارطة تونس الساحلية البراقة من سيدي بوسعيد إلى الحمامات وسوسة وصولا إلى جزيرة جربة، بشواطئها وشمسها التي تغري السياح الأجانب، ولكن آلة الدعاية لنظام بن علي كانت تتقن فن حجب مشاهد تونس العميقة والبائسة.
وبعد مرور ثمانية أعوام تقريبا على الثورة التي فجرتها حادثة حرق البائع المتجول محمد البوعزيزي لنفسه، في سيدي بوزيد، ما تزال معدلات الفقر والهجرة غير الشرعية وبطالة الشباب، هي الأعلى في البلاد وما تزال سطوة الفساد تهيمن على الإدارة ومفاصل الإقتصاد. وفي الانتخابات التشريعية الأخيرة وجه الناخبون رسالة قوية للنخب السياسية الحاكمة والمعارضة في شكل تصويت عقابي.
رسالة مَهاَ
وهاهي اليوم روح مَهَا تحلق في سماء تونس بتزامن مع أول اجتماع لمجلس نواب الشعب المنتخب حديثا، وبينما كان التونسيون يتطلعون إلى صفحة جديدة في أداء الطبقة السياسية، "عادت حليمة إلى عادتها القديمة" واستهل البرلمان الجديد مشوارة بجلسة صاخبة بسبب خلاف بروتوكولي حول طريقة أداء اليمين الدستورية، فرديا أم جماعيا، وبسبب تجاذبات بين من يُصنفون كأنصار الثورة وبين "القوى المضادة للثورة" أو ممثلي النظام القديم.
وفي الكواليس تجري مشاورات بين الأحزاب والكتل النيابية لتوزيع المناصب القيادية بالبرلمان في أفق البحث عن صفقة لإختيار الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة. لم يطل التجاذب حول إختيار النواب لراشد الغنوشي زعيم حزب حركة النهضة الإسلامي كرئيس للبرلمان. لكن التوافق على تكليف شخصية لتشكيل الحكومة الجديدة، ما يزال صعب المنال، بسبب رفض عدد من الأحزاب الشريكة المحتملة لحزب النهضة المتصدر لنتائج الإنتخابات، المشاركة في حكومة برئاسة شخصية من الحزب الإسلامي.
وما تزال الأنظار موجهة إلى ساكن قصر قرطاج الجديد، أستاذ القانون الدستوري قيس سعيِّد الذي منحه التونسيون أصواتهم بأغلبية كاسحة، أملا في نظافة يده واستقلاليته عن الأحزاب وتعهده بمكافحة الفساد.
بيد أن تشتت الخارطة السياسية التي أفرزتها انتخابات السادس من اكتوبر تشرين أول الماضي، وحدَّة الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين الأطياف المختلفة، يجعل مهمة تشكيل حكومة جديدة مناسبة جديدة تعيد التونسيين إلى المربع الأول للمشهد الذي سئموه منذ سنوات، مشهد الجدل السياسي العقيم وقلّة البدائل الاقتصادية والاجتماعية للشباب وأبناء المناطق الفقيرة والمهمشة. فعلى منصات مواقع التواصل الإجتماعي والقنوات التلفزيونية يتبارى المفوَّهون من الطبقة السياسية والوجوه الإعلامية بألوان الخطب والسجالات، التي تعيد إنتاج نفسها.
تلقت أسرة مَهَا وعدا من والي المنطقة بمساعدة إجتماعية وبناء بيت على أنقاض الكوخ الذي تسكن فيه العائلة والتي لن يعوضها ذلك ولو نذرا قليلا من نظرات عيني الفتاة التي رحلت بينما تنشغل الطبقة السياسية بسجالاتها ومحاصصاتها من "الكعكة" كما يصطلح عليها في الإعلام المحلي بتونس.
فهل تُقرأ رسالة مَهَا؟
منصف السليمي