البيروقراطية في ألمانيا تشدد الخناق على الشركات والأفراد
٣١ يناير ٢٠٢١قلما تجد رجال أعمال أو أشخاص على علاقة بالبيروقراطية الألمانية لا يشتكون من تعقيداتها والأضرار التي تسببها للشركات وسير الحياة اليومية. والغريب في الأمر أنه حتى القائمين عليها وأولئك المطلوب منهم الحد من سطوتها يشتكون منها أمثال وزير الاقتصاد بيتر ألتماير. فالوزير الذي أخذت حكومته على عاتقها تبسيط المعاملات الورقية المتعلقة بالضرائب والتأمينات والتوظيف والتأهيل وغيرها اشتكى أكثر من مرة عدم رضاه على ما تحقق من تقدم حتى الآن. وجاءت آخر انتقادات الوزير خلال عرضه قبل بضعة أيام للتقرير الاقتصادي السنوي للحكومة عن وضع الاقتصاد الألمانيوأفاقه خلال العام الجاري 2021. ومما جاء فيها أن المساعدات المخصصة للشركات الصغيرة والمتوسطة اعتبارا من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 لمواجهة أضرار جائحة كورونا لم تصل حتى الآن سوى إلى 50 بالمائة من مستحقيها. ويعود هذا التأخير إلى التعقيدات الورقية المفرطة وضعف بنية التعامل الإلكتروني في ظل أقسى جائحة عرفها التاريخ المعاصر.
وقد خصصت الحكومة الألمانية حتى الآن 80 مليار يورو كمساعدات للشركات من أجل مواجهة تبعات الجائحة. حتى الآن، بالإضافة إلى 23 مليار يورو لتعويض العاملين عن تقصير فترات عملهم و 130 مليار لحزمة الاستثمار والتحفيز الاقتصادي. وتعد هذه المخصصات مبالغ سخية جدا مقارنة مع مثيلاتها في أوروبا والعالم. غير أن التأخير في صرفها يلحق أضرارا كبيرة تدفع المئات من الشركات إلى الإفلاس شهرا بعد الآخر. وهو الأمر الذي زاد من حدة الانتقادات الموجهة لحكومة ميركل رغم تأكيدها على أن التأخير في صرف المساعدات يعود في قسم كبير منه إلى ضرورة فحص الطلبات بشكل دقيق من أجل تجنب إساءة استخدام الأموال التي خصصتها الحكومة من أموال دافعي الضرائب.
البيروقراطية على نطاق أوسع في ظل كورونا
الوزير توقع في عرضه للتقرير أن يكون معدل نمو الاقتصاد الألماني هذا العام بحدود 3 بالمائة بدلا من 5 بالمائة كانت متوقعة في الخريف الماضي. ومما لاشك فيه أن معدل النمو المتوقع لهذا العام سيكون أعلى لولا عوائق البيروقراطية المتزايدة.
ووفقا لاستقصاء خاص بالشركات المتوسطة والصغيرة أواخر العام الماضي 2020 تبين أن مخاوفها الأكبر ليست من تبعات جائحة كورونا بل من الوقت والجهود اللازمة لتجاوز هذه العوائق التي تعقدت أكثر فأكثر في ظل كورونا. ووفقا للاستطلاع الذي شاركت به 15 ألف شركة أفادت 68 بالمائة منها أن أبرز مشاكلها تتمثل في مواجهة مشاكل البيروقراطية التي تؤرقها أكثر من من مشكلتي نقص العمالة الماهرة وتبعات أزمة كورونا. ويقدر مكتب الاحصاء الفيدرالي الألماني الاعباء السنوية التي يتكبدها الاقتصاد بسبب تكاليف الاجراءات البيروقراطية بعشرات مليارات اليورو سنويا. ففي عام 2018 على سبيل المثال قدر المكتب التكاليف التي تكبدها فقط من أجل الوفاء بمتطلبات القوانين الفيدرالية بأكثر من 50 مليار يورو.
ومع زيادة التعقيدات يتوقع أن تكون التكاليف أعلى في الوقت الحاضر. ورغم اتفاق التحالف الحاكم بزعامة المستشارة ميركل على تبسيط المعاملات فإن تغييرات إيجابية قليلة حصلت حتى الآن رغم مرور معظم فترة حكم الحكومة الحالية. ويقتصر ما تحقق حتى الآن على تخفيف عبء بعض الاجراءات المتعلقة بمعاملات التوظيف بشكل يوفر على الشركات مليار يورو أو ما يزيد بقليل، وهذا مبلغ متواضع مقارنة بالتكاليف السنوية للأعباء.
المهاجرون أيضا تحت وطأة أدغال البيروقراطية
غير أن الإجراءات البيروقراطية التي زادت جائحة كورونا من تعقيدها لا تعرقل سير عمل الشركات وحسب، بل أيضا قدوم الاستثمارات وهجرة العمالة الماهرة إلى ألمانيا التي تحتاج إلى أكثر من مليون شخص من هؤلاء في مختلف التخصصات لاسيما تقنية المعلومات والخدمات الطبية وخدمات كبار السن. وحتى اللاجئين والمهاجرين الذي يقيمون في ألمانيا لسنوات، فإنهم لا يستطيعون بمفردهم التعامل مع الاجراءات البيروقراطية عندما يتعلق الأمر بالتأهيل والبحث عن عمل دون هدر الوقت بشكل مبالغ فيه ودون مساعدة من له خبرة في التعامل مع أدغال المعاملات الورقية التي تبدو بلا نهاية. ويصل أمر الكثيرين إلى حد الاصطدام باختلاف تعامل الموظفين مع الأوراق المطلوبة وخاصة عندما ينتقل المرء من ولاية إلى أخرى. وهنا يبدو الأمر للكثير من المهاجرين وكأنهم انتقلوا من دولة إلى أخرى.
الاكتفاء بخطوات صغيرة بدلا من إصلاح جوهري
تعد الحكومة الألمانية من بين الحكومات التي تقدم الدعم السخي للاقتصاد. لكنها في نفس الوقت تكرر منذ عقود الكثير من الوعود لمكافحة البيروقراطية، غير أن القليل تحقق من هذه الوعود في الوقت الذي تطول فيه قائمة مطالب ممثلي الشركات والاتحادات المهنية بالحد من سطوة البيروقراطية. ومن هذه المطالب على سبيل المثال تعميم المعاملات الإلكترونية بالتوازي مع تبسيط النظام الضريبي وأنظمة التأمينات الاجتماعية والمعاملات الورقية المتعلقة بتأسيس المشاريع وتمويلها وتدفق الاستثمارات إليها. السؤال هنا، إلى أي مدى يمكن الوفاء بهذه المطالب في المدى المنظور؟
إذا أخذنا وقائع سنوات العقدين الماضيين، لا يبدو أن هناك فرصة للقيام بإصلاح يحد بشكل جوهري من سطوة البيروقراطية. فألمانيا بلد فيدرالي تتقاسم السطلة فيه الحكومة الفيدرالية في برلين وحكومات الولايات وهو الأمر الذي يعقد سبل التوافق على إصلاح قد يضر بأطراف نافذة ومستفيدة من الوضع القائم. وهنا لابد من الإشارة إلى وقوف لوبيات الموظفين والمحامين ومستشاري الضرائب والاستثمارات وغيرها من مجموعات الضغط والنفوذ ضد عملية الإصلاح لأن تبسيط القوانين والإجراءات البيروقراطية لا يخدم مصالحها. فمثل هذا التبسيط يفقد الكثيرين من المنتمين لها عملهم أو جزءا منه على الأقل.
وإذا أخذنا بعين الآعتبار أن غالبية أعضاء البرلمان تكون في العادة من المحامين والمستشارين، فيمكن لنا تصور صعوبة أو عدم إمكانية تمرير مثل هذه القوانين بأغلبية الأصوات. وعليه فإن عملية الإصلاح ستقتصر على خطوة صغيرة هنا وأخرى هناك كحل وسط يرضي صناع القرار ويخفض أصوات المطالبين بالتغيير.
ابراهيم محمد