تحليل: أوكرانيا والخطر الأكبر الذي يهدد الاقتصاد الألماني
٢٢ فبراير ٢٠٢٢ألحقت جائحة فيروس كورونا خسائر فادحة وغير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية باقتصاد ألمانيا. وهناك عدة أسباب لهذه الخسائر، من أبرزها القيود التي تم فرضها على الأفراد والشركات لمكافحة الجائحة، وانقطاع سلاسل التوريد العالمية التي رافقها نقص المواد الأولية وارتفاع أسعارها. ويرى معهد "ايفو" الشهير للبحوث الاقتصادية في ميونيخ أن الجائحة أدت إلى تراجع أداء الاقتصاد الألماني بنحو 330 مليار يورو، أي ما يزيد على 9 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على مدار العامين الماضيين 2020 و 2021. وطالت الخسائر الفادحة بشكل خاص قطاعات السياحة والسفر والمطاعم والمقاهي والتجارة غير الإلكترونية والأنشطة الثقافية والتعليم. كما تأثرت ولو بشكل أقل الصناعات التي تعتمد على الخارج في توفير موادها الأولية والكثير من مدخلات إنتاجها الأخرى كالسلع الوسيطة وقطع الغيار. ومن بين الصناعات التي تأثرت صناعات أساسية مثل صناعة السيارات والأجهزة الإلكترونية والمنزلية ومواد البناء.
تعافي الاقتصاد وعلاقته برفع قيود كورونا
منذ اندلاع الجائحة اتخذت الحكومة الألمانية إجراءات سخية لدعم الاقتصاد من أبرزها تقديم حزمة مساعدات وقروض ميسرة بقيمة 130 مليار يورو لدعم الشركات والأجور وتكاليف التشغيل. ولولا هذه المساعدات لكانت الخسائر أعلى وعدد الشركات المفلسة أكثر بكثير. وقد زاد عدد هذه الأخيرة على 14 ألف حالة خلال العام الماضي 2021 .
وإذا كانت الحكومة الألمانية سخية في تقديم المساعدات، فقد كانت قاسية في فرض القيود المتعلقة بمكافحة كورونا. وتُعد هذه القيود من بين الأقسى على مستوى أوروبا، لاسيما بعد انتشار طفرة فيروس أوميكرون من سلالة كورونا. وهو الأمر الذي أدى إلى مزيد من الخسائر الاقتصادية خلال الأشهر الست الماضية ودفع ممثلي القطاعات الأكثر تضررا إلى ممارسة المزيد من الضغوط للتخفيف من حدة هذه القيود. وقد استجابت الحكومة الألمانيةلذلك مدعومة بتراجع موجة الإصابات بالفيروس وعوامل أخرى.
وفي إطار توجهها الجديد أعلن المستشار أولاف شولتس أن حكومته اتخذت خطوات واسعة النطاق لتخفيف قيود التنقل والعمل وفتح المؤسسات التجارية والمطاعم والفنادق والمراكز والأندية الثقافية والفنية والملاعب الرياضية على نطاق أوسع أمام الجمهور بشكل تدريجي. وأضاف المستشار أن غالبية القيود ستكون ملغاة بحلول 20 مارس/ أذار القادم 2022. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ينجح تخفيف القيود هذا في تعويض الخسائر وعودة عجلة الاقتصاد إلى الدوران كما كان عليه سابقا؟
الاقتصاد والارتفاع الجنوني لأسعار الطاقة
مما لا شك فيه أن رفع قيود كورونا سيدفع عجلة الاقتصاد الألماني ومعه معدلات النمو إلى الأمام، غير أن هذا الدفع سيكون ضعيفا لأن التحدي الأكبر لاقتصاد ألمانيا خلال الأشهر القادمة يبدو في مواجهة الارتفاع الجنوني في أسعار مصادر الطاقة وعلى رأسها الغاز الطبيعي، الذي ارتفع سعره بنسب تراوحت بين 400 و 600 بالمائة خلال أقل من سنة ليزيد سعر كل ألف لتر مكعب على 1000 دولار مؤخرا.
ووصل سعر برميل النفط مؤخرا إلى نحو 100 دولار للبرميل. وما يزيد الطين بلة هو أن اندلاع القتال مجددا في شرق أوكرانيا سيؤجج نار الأسعار، لأن ذلك يمس قسما هاما من إمدادات الغاز الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا إلى غرب أوروبا. وتعتمد ألمانيا في توفير ما يزيد على 55 بالمائة من احتياجاتها من الغاز على روسيا. كما أن الاقتصاد الألماني من أكثر الاقتصاديات الغربية تشابكا مع الاقتصاد الروسي.
هل يصل الأمر إلى حد قطع إمدادات الغاز الروسي؟
وهكذا فإن أحد أكبر المخاطر بالنسبة الاقتصاد الألماني هو اندلاع حرب بين أوكرانيا وروسيا وتمددها إلى مناطق أخرى بشكل قد يؤدي إلى قطع إمدادات الغاز من روسيا. ولا يستغرب وزير المالية الألمانية، كريستيان ليندنر، هذا السيناريو في حال فرض الغرب عقوبات قاسية على موسكو.
وحذر ليندنر في حديث مع جريدة "فاننشال تايمز من أن "قطع الإمدادات يعيني إصابة أقوى اقتصاد أوروبي بالشلل". وإذا عرفنا أن العقوبات الخفيفة التي فرضها الغرب على روسيا بسبب ضم شبه جزيرة القرم تكلف الاقتصاد الألماني 5 مليارات يورو سنويا، فإن فرض عقوبات قاسية وشاملة قد يتسبب بزلزال مالي واقتصادي عالمي يطال الاقتصاد الألماني أكثر من اقتصاديات دول أوروبا الغربية الأخرى.
ورغم أن سيناريو قطع الإمدادات مستبعد كونه يصيب أيضا الاقتصاد الروسي في الصميم بسبب اعتماده الكبير على عائدات الغاز والنفط إلى السوق الألمانية والأسواق الأوروبية الأخرى، فإن استمرار ارتفاع أسعار مصادر الطاقة أمر لا مفر منه على ما يبدو في المدى المنظور. ويعود سبب ذلك إلى التصعيد الجديد في الأزمة الأوكرانية واستمرار التوترات الجيوسياسية ليس في أوكرانيا وحسب، بل وفي منطقة الخليج أيضا حيث أهم منابع النفط والغاز في العالم. كما أن هذا الارتفاع حتمي لأن أسعار الغاز الأمريكي والقطري والاسترالي المسال الذي يُطرح كبديل للغاز الطبيعي القادم من روسيا مرتفعة وهي أعلى بنسبة تتراوح بين 30 و 40 بالمائة. ويزيد من عبء الاعتماد عليه أن ألمانيا لا تمتلك حتى الساعة محطات كافية لاستقبال سفن الغاز المُسال.
أهم تحديات السنوات الخمس القادمة
تتمتع ألمانيا بأقوى اقتصاد أوروبي وهو من أكثر الاقتصادات تشابكا مع الاقتصاد العالمي، لأن ألمانيا تفتقر إلى مصادر الطاقة والمواد الأولية من جهة، وهي أحد أبطال العالم في التصدير إلى الخارج من جهة أخرى. وهكذا فإن استمرار ارتفاع أسعار الطاقة يشكل ضربة تكبح مقومات التنافسية الألمانية ومعها النمو وسترفع معدلات التضخم.وإذا كان الوضع ما يزال حاليا تحت السيطرة، فإن استمرار التصعيد في أوكرانيا ومناطق أخرى قريبة من مصادر الطاقة سيبقي أسعارها على ارتفاع وبعيدة عن الاستقرار. وعليه فإن تحدي السنوات الخمس أو العشر القادمة أمام الحكومة الألمانية يكمن في إيجاد مصادر طاقة بديلة تقي من مخاطر الاعتماد على الخارج بهذا الشكل الذي لا يشكل خطرا على النمو في المدى القريب، بل أيضا على الازدهار والرفاهية التي عرفتها ألمانيا خلال العقود الستة الماضية أكثر من أي وقت مضى في تاريخها.
إبراهيم محمد