"الثورة انتصرت لكن بن علي هزمنا كأشخاص"
١٤ يناير ٢٠١٥يسلط فيلم درامي جديد للمخرج التونسي المنصف البربوش الضوء على حياة المساجين السياسين في تونس داخل أروقة السجون وخارجها قبل الثورة. بطل الفيلم هو ناشط اسلامي، زُج به في السجن 15 عاما غداة انتخاب زين العابدين بن علي رئيسا لتونس سنة 1989. بعد الإفراج عنه، يدخل البطل في صراع نفسي مع ذاته ومحيطه العائلي. يوثق الفيلم في 140 دقيقة فضاعة التعذيب في السجون التونسية وغطرسة الأجهزة الأمنية وملاحقتها للنشطاء السياسين من إسلاميين ويسار ونقابيين ، وتزوير الانتخابات على مدى 23 سنة من حكم بن علي. حتى قبل بداية عرضه في دور السينما، أحدث فيلم "صراع" جدلا واسعا في تونس، بعد أن قررت اللجنة المنظمة لمهرجان قرطاج السينمائي استبعاد الفيلم من المشاركة الشهر الماضي، وتم إرجاء عرضه حتى الإنتهاء من الانتخابات.
بربوش حضر العرض الأول لفيلمه "صراع" في ألمانيا بعد دعوة وجهت له من طرف جمعية الشباب التونسي في مدينة بون الألمانية. وناقش المخرج التونسي مع الجمهور الغايات التي دفعته لإنتاج هذا الفيلم ودور الفن السابع في توثيق الذاكرة الجماعية. يذكر أن المنصف بربوش عاش في المنفى بكندا لمدة 25 سنة وعاد إلى تونس بعد سقوط نظام بن علي قبل أربع سنوات.
وقد خص بربوش DW عربية بالحوار التالي:
ماهي الأسباب وراء منع فيلمك من المشاركة في مهرجان قرطاج السينمائي؟
لجنة تنظيم المهرجان هي وحدها من تعرف الأسباب، لكن ما توصلت إليه أنا شخصيا مع مرور الزمن هو أن محتوى الفيلم تسبب في إقصائه ومنع عرضه. إذ أن قضية الفيلم تركز أساسا على الإسلاميين، وهي فئة يعاديها الكثيرون في تونس. وبالتالي فإن السبب سياسي. يغوص الفيلم في عمق نظام بن علي، إذ يعرض الممارسات التي سلطت على ضحايا الإستبداد وعن تزوير الانتخابات.
تقول أن السبب سياسي، هل معنى ذلك أن وزارة الثقافة تقف وراء ذلك؟
حسب تصوري، يمكن أن تكون وزارة الثقافة متورطة بشكل خفي، إذ بعد أن منحتني الوزارة رخصة لعرض الفيلم، جوبهت برفض قاعات السينما لعرضه، إلا بعد الانتهاء من إجراء الانتخابات. جهات نافذة ولها قرارات في البلد هي من أمرت بمنع عرض الفيلم. لا أستطيع أن أسميها في الوقت الراهن، لكني سأفضحها يوما ما. لقد مورست علي ظغوط مباشرة وهددت أكثر من مرة بهدف التراجع عن عرض الفيلم.
طيب، درة بوشوشة، مديرة المهرجان، كانت قد صرحت بأن الفيلم رفض "لأسباب فنية". هل يعني ذلك أن فيلم "بدون2"، الذي تم قبوله في المهرجان أفضل بكثير فنيا من فيلمك؟
الجمهور وحده هو المخول لتقييم الفيلم، وليس بوشوشة أو لجنتها. لقد شاهدت صراحة فيلم "بدون 2"، وخرجت من قاعة السينما مستاءا جدا. لو أتيحت الفرصة لقبول فيلمين تونسيين أو ثلاثة، لما حصلت كل هذه الشوشرة. فالمهرجان شيد أساسا لتشجيع الفيلم التونسي. والمفارقة أن رئيس لجنة اختيار الأفلام التونسية كان قد صرح للصحفيين في حفل افتتاح المهرجان، أنه ليس له أي مشكل مع الفيلم من الناحية التقنية. إذا على بوشوشة أن توضح لي الآن أين هو الخلل التقني في الفيلم بالظبط.
هل تعتقد إذا أن الإدراة التونسية ممثلة في وزارة الثقافة مازالت تخضع لنفس أساليب الرقابة كتلك التي كانت عليها قبل الثورة؟
لازالت دار لقمان على حالها. كيف تريدون من وزارة الثقافة أن تتغير وهي لازالت تعمل بنفس المسؤولين ونفس السياسات ونفس المنهجية؟ فمثلا، يوجد مخرجون لديهم الحق في تمويل أفلامهم، في حين يحرم آخرون من ذلك. حال وزارة الثقافة أسوأ مما كانت عليه سنة 1990، وهذا ما قلته لوزير الثقافة.
ركزت في أفلامك أساسا على قضايا الإسلاميين، كفيلم "أليس الصبح بقريب" و"تونس 87" وأيضا هذا الفيلم. هذا ما يراه البعض انحيازا في أعمالك للإسلاميين. مارأيك؟
دعني أقول بوضوح،لا أنتمي لأي تيار ولا لأي حزب معين. أنا انسان مسلم وأدافع عن الإسلامي وغيره. قمت بإخراج 17 فيلما ركزت فيها على أمرين أساسين هما القضية الفلسطينية وقضايا حقوق الإنسان. يلومني بعض الإعلاميين في تونس أن أفلامي لا تدافع عن اليساريين. ولما لا أدافع على الإسلاميين؟!
لكن اليساريين كانوا أيضا ضحية الإستبداد مثلهم مثل الإسلاميين. أليس كذلك؟
صحيح، وقد ذكرت ذلك في فيلمي "صراع". هناك شخصية النقابي في الفيلم، سرب معلومات خطيرة حول وضعية السجن البشعة إلى جريدة "الموقف" المعارضة. بينت كيف شارك هذا النقابي في تكوين جبهة 18 أكتوبر في السجن قبل أن تخرج الحركة إلى العلن. لكن العمود الفقري للسيناريو هما في الأصل الناشط الإسلامي وعائلته، قمت بإخراج هذا الفيلم لأبين أن أكثر فئة اضطهدت طيلة 23 سنة من حكم بن علي كانت الإسلاميين، وهذا من حقي.
وهل تعتقد أن تونس قد طويت صفحة الاستبداد للأبد؟
لا أعتقد أن تونس قد طويت هذه الصفحة للأبد، ولكن لن نعود إلى ما كنا عليه قبل الثورة. سيعود الاستبداد في شكل مغاير. لم تنتهي الثورة بعد وستستمر كما أشرت إلى ذلك في نهاية الفيلم.
هل يمكن أن يكون هذا الفيلم محاولة علاج ذاتي لك أنت أولا، كونك عشت في المنفى، ولضحايا نظام بن علي؟
بالفعل إنها محاولة علاج ذاتي لي أنا شخصيا وللآخرين، للجاني وللمجني عليه. رجال أمن ووزراء داخلية سابقون شاهدوا الفيلم... كلهم تساءلوا، كيف أمكن لكل هذا التعذيب أن يقع؟؟ لكن الغاية الأهم بالنسبة لي هي أن يفتح حوار هادئ وأن يعيد المشاهد التفكيرفي تلك الفترة، ليطرح بدوره السؤال، لماذا حصل هذا كله، ولماذا اكتفى كثيرون بالصمت.
غايتك فتح حوار هادئ... لكن ألا تخشى أن يحدث الفيلم ضجة من جديد وأن يستفز مشاعر البعض؟
لا لن يستفز مشاعر أحد ولكن من الممكن أن يحدث ضجة أخرى وهذا ما حذرني منه من حاول منع الفيلم من عرضه. هناك مخاوف أن يحدث الفيلم بلبلة وربما ثورة جديدة ونصحوني بإرجاء عرضه إلى ما بعد أن تمر فترة الإنتخابات بسلام. لصالح من هذا كله؟! لا أعرف...
طيب، عندما شاهدت الفيلم لأول مرة كمشاهد عادي، ماهو المشهد (من الفيلم) الذي مسَ وجدانك في الصميم؟
في آخر الفيلم، مشهد الإفراج عن الأب وعودته إلى البيت، بعد قضائه 15 سنة من السجن والعذاب، متصورا أنه سيُستقبل بالورود. هذا تقريبا مع حصل لي أنا أيضا رغم أني لم أٌسجن. عند هروب الطاغية واحتفال التونسين بالحرية، في الرابع عشر من يناير، كنت في منفاي في كندا، ذلك اليوم كان أحزن أيام حياتي على الإطلاق، عندما رفض أبنائي فكرة العودة إلى تونس لانهم يعتبرون أنفسهم كنديين ويحبذون العيش في مونتريال، لقد اكتشفت حينها أن بن علي هزمني وسلخني من جذوري طيلة 25 سنة... فهنيئا له بذلك، هنيئا له.
صرحت مرة بأن "السينما التونسية لم تنصف شعبها ولو بشريط واحد". فهل تعتقد أن فيلم "صراع" قد أنصف فعلا الشعب التونسي اليوم؟
إما أن تكون السينما قريبة من هموم الشعب وتطلاعاته أو لا تكون. على السينما أن تخدم الإنسان. السينما التونسية لم تهتم بمشاكل الشعب التونسي، مثلا فيلم "عصفور السطح" تناول تابوه الجنس ولكنه تجاهل تابوهات أخرى أهم مثل التعذيب. وأ،ا أتساءل هل إن الجنس أهم من التعذيب؟
بخصوص التابوهات. هل تعتقد أن هناك فعلا جرأة في سينما العالم الإسلامي لكسر التابوهات؟
هناك بعض الأمثلة في سوريا وفي مصر كالمخرج سعيد مرزوق في فيلم زوجتي والكلب. أيضا في الجزائر كان هناك بعض الأفلام التي وثقت تاريخ الجزائر بشكل ملتزم. لكن في ما عدا ذلك لم أرى حقيقة أفلاما قريبة لشعوبها في العالم الإسلامي.
ماهو موقفك من الهجوم على مجلة شارلي إيبدو الساخرة في باريس؟
أعتقد أن المسلم يجب أن يعطي الحياة لا أن يأخذها. دون أدنى شك إنني كمسلم ضد هذه الأحداث والاعتداءات مائة بالمائة. لكن يتعين أو نقول إن المشكل يكمن فينا نحن(كمسلمين) لا في الآخرين، لم نفهم ديننا جيدا، وهناك جهل وتصحر ديني، وهذا هو سبب التطرف. وهذا ما حاولت إبرازه في الفيلم.
إذا فهل أصبحت حرية التعبير مهددة بين مطرقة التطرف وسندان الإستبداد؟
لابد أن نحترم بعضنا البعض، وإلا فإن مآل العالم هو الإنهيار. لن يستقيم الأمر إذا شرعنا في شتم الرسل. أنا شخصيا مع إقامة حدود لحرية التعبير ومع وضع بروتوكول لإحترام المقدسات. لا يجب تدنيس المقدسات وأرى أن حرية التعبير لها حدود.
أجرى الحوار في بون: سميح عامري