الرديّف التونسية..تزخر بكنوز الطبيعة وسكانها يقاومون العطش!
١٢ سبتمبر ٢٠٢٠"الماء هنا لا ينقطع لساعات أو لأيّام، بل يستمرّ طيلة أسابيع وأحياناً لأشهرٍ، خصوصاً في فصل الصيف، فإمّا أن نتدبّر أمرنا لشراء صهريجٍ من المياه أو أن نموت عطشاَ"، هكذا يلخّص عبد المجيد ذوادي أزمة الماء التي تعيشها مدينته الرديّف (جنوب غرب تونس) منذ سنواتٍ.
أبناء عبد المجيد يضعون يومياً أوعيةً بلاستيكية أمام منزلهم بحي العمايدة، لملئها بالماء الصالح للشرب، الذي توفره سيارات خاصّة تجوب شوارع مدن منطقة الحوض المنجمي (الرديّف وأم العرايس والمتلوي والمظيلة) لبيع الماء، كحلّ ابتكره الأهالي لمقاومة العطش.
يقول عبد المجيد لـ DW عربية، إنّه يضطرّ لشراء الماء من السيارات، بسبب تتالي انقطاعه، "لكنّ ذلك تحوّل لاحقاً إلى عادةٍ يوميةٍ لأنّ الماء الذي توفره الدولة غير صحي، ولا يصلح حتّى لشرب الحيوانات أو الأشجار، ومع ذلك ندفع لها ثمن فاتورة ماء لا نستعمله".
ولا تعدّ هذه الحالة معزولة، إذ أنّ أغلب الأهالي هنا يخزنون الماء ليوم الشدّة، لاسيما وأنّ مدينتهم تشهد أعلى نسبة لانقطاع الماء في محافظة قفصة التي تصدرت بدورها باقي المحافظات.
وتتصدر منطقة الحوض المنجمي التابعة لمحافظة قفصة (جنوب غرب تونس)، المنتج الرئيسي للفوسفات بالبلاد، قائمة عدد الانقطاعات المتكرّرة للماء الصالح للشرب في ظل موجة عطش شديدة هي الأسوأ في تاريخ تونس.
وصنّف تقرير دولي صادر عن معهد الموارد العالمية ”وورلد ريسورسز”، تونس بـ" الصنف الأحمر" باعتبارها من أكثر الدول المهددة بجفاف حاد بسبب ندرة المياه وارتفاع حرارة المناخ إضافة إلى سوء استخدام الموارد المائية.
قسوة الجغرافيا وظلم "المنظومة"
مدينةٌ الرديّف التي تبدو منهكةً وجافّةً، بمساكنها البسيطة، تحمل وجوه سكانها، علامات سنواتٍ من العطش والجفاف، إذ يؤكد عبد المجيد أنّ حي العمايدة، حيث يقيم، يعتبر من الأحياء "المغضوب عليها" التي تعاني من انقطاع مستمر للماء، مثل بقية الأحياء المجاورة كحومة السوق والنزلة والفيلاج.
وعلى غرار باقي مدن وبلدان منطقة الحوض المنجمي تعاني الرديّف مشاكل متراكمة منذ عقود من الزمن، وهي تشكل تاريخيا معقلا للحركات الاحتجاجية والنقابية، وحملات قمع من السلطات. وشهدت منطقة الرديف سنة 2008 أول انتفاضة ضد نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. وبعد الثورة، أصبح سكان الرديّف مثل باقي التونسيين يتنفسون الحرية، لكن المنطقة ما تزال تعاني من معضلة العطش.
ويحذّر الخبير في التغيّرات المناخية زهير الحلاوي في تصريحه لـDW عربية، من أن تجتاح البلاد موجة جفاف وعطش، خصوصاً بمناطق الوسط التونسي والجنوب، خلال السنوات المقبلة نتيجة تقلّص هبوط الأمطار، وانخفاض منسوب السدود مقابل ارتفاع استهلاك الماء.
وتضطر العائلات المقيمة في هذه المناطق إلى شراء أوعية بلاستيكيةتقدير قيمة الواحد منها 1 دينار تونسي(اليورو يعادل 3.2 دينار تونسي) أو صهاريج كبيرة بحوالي خمسين ديناراً لملئها بالماء وتخزينه واستعماله عند الحاجة.
من جانبه، يقرّ سامي الغابي والي (محافظ) قفصة في تصريحه لـDW عربية، بوجود "نقصٍ في توزيع المياه، بسبب ارتفاع نسب الاستهلاك في الصيف، وتعمّد بعض المواطنين استغلال مياه الشرب في الريّ والزراعات، فضلاً عن ضعف التدابير القانونية لردعهم".
وبخصوص ضعف جودة المياه، يقول الغابي إنّها لا تحتوي على مشاكل كبيرةٍ، وإنّها تخضع إلى مراقبة مصالح التحليل التابعة لوزارة الصحّة، مشيراً إلى أنّ مصالح المراقبة ترفع عيّنات للتحليل كل أسبوعين.
العطش يوحّد الجميع
خالد طبّابي أستاذ فيزياء لم تسمح له الأزمة الاقتصادية التي تجتازها البلاد بالحصول على وظيفةٍ، فقرّر فتح محطّة صغيرةٍ لتصفية المياه وتحليتها قبل بيعها إلى الأهالي، يؤكد لـ DW عربية، أنّ جودة المياه المتوفّرة في المحافظة "غير صحيّة، بسبب سوء إمدادات الشبكة، وعدم الاهتمام بتنظيفها"، وهو ما جعله يفكّر في تحسين جودتها.
كما شدّد إبراهيم (اسم مستعار) اكتفى بتقديم نفسه كمواطن من الرديّف، على أنّ المياه التي توفرها الدولة أضرّت بصحته وصحة عائلته، إذ تحوّل لون أسنانهم إلى الأصفر بسبب الرواسب التي يحتويها، وهي الحالة التي تنسحب على أغلب سكّان محافظة قفصة، الذين باتوا معروفين باصفرار أسنانهم.
ويكشف نبيل ماجدي أحد أهالي الرديّف، أنّ "الجميع هنا يعاني من أمراضٍ خطيرةٍ على مستوى الكلى بسبب المياه التي لا تستجيب للحدّ الأدنى من المواصفات المطلوبة، هذا إن توفّرت"، لافتاً إلى أنّ شراء الماء من السيارات المتنقلة، هو الحلّ الأنسب بالنسبة لهم لتجنّب انقطاع الماء أو سوء مواصفاته.
هل تروي الوعود عطش الأهالي؟
وكشف رئيس المرصد التونسي للمياه أحمد طبابي، في تصريح لـ DW عربية، تسجيل ارتفاع كبير في عدد الاحتجاجات المتعلّقة باضطراب التزوّد بالماء، خلال السنتين الأخيرتين، وأنّه تم خلال أغسطس/ آب الماضي فقط، تسجيل أكثر من 270 إشعار بانقطاع الماء، لافتاً إلى أنّ محافظة قفصة تصدرت قائمة المناطق الأكثر تسجيلاً لذلك.
من جهته، يؤكد محافظ قفصة على أنّ السلطات المحلية أعدّت مخطّطاً لحفر آبار عميقة لتزويد الأهالي بالماء، على أن تكون جاهزةً قبل بداية الصيف المقبل، مشدّداً على أنّ هذا الصيف كان نسبياً أفضل من صيف 2019، من حيث انقطاع الماء.
أما عبد المجيد فيقول لـ DW عربية، إنّ الدولة قد "أسقطتنا من حساباتها، وتجاهلت ما تقدّمه مدن قفصة من ثرواتٍ هامّة لإنعاش الاقتصاد الوطني، حتّى أنّها لم تلتزم بكلّ وعودها السابقة، في تحسين جودة المياه، ومعالجة إشكال انقطاعه".
يذكر أنّ امدادات المياه لا تصل عدداً من المناطق الريفية، على غرار معتمدية السند (حكم محلي)، فيضطر أهلها إلى استخدام الحمير والبغال لنقل المياه من المرتفعات والنزول بها في اتجاه المنحدرات والمسالك الملتوية والأودية.
الرديّف تغسل الفوسفات ليعطش أهلها؟
من جانبه، يحمّل رابح بن عثمان عضو بفرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بقفصة (جمعية غير حكومية) شركة فوسفاط قفصة، التي تستثمر في منطقة الحوض المنجمي، المسؤولية باستنزاف الثروة المائية في المنطقة.
ويؤكد بن عثمان لـDW عربية، أنّ الشركة تستهلك 5000 لتر من الماء لغسل طن واحد من الفوسفات، وأنّ مغسلة الرديّف لوحدها تغسل يومياً وفي الحالات العادية ما لا يقل عن 300 ألف طن، وهو ما استنزف المائدة المائية كلياً.
وأضاف بن عثمان أنّ جمعيته رفعت قضيةً ضد الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بسبب الانقطاع المتكرٍّر للماء، خصوصاً أنّ مدّة هذا الانقطاع تجاوزت في بعض المناطق الريفية ثلاث سنوات.
ومن جهتها، نفت شركة فوسفات قفصة، مسؤوليتها عن أزمة المياه في المنطقة، وأوضح مسؤولون من الشركة في تصريحات لوسائل إعلام محلية، بأن الشركة تستخدم مياها مالحة لغسل الفوسفات وليس المياه الصالحة للشرب، كما تراجع استخدام المياه أصلا من قبل الشركة، بسبب الإضرابات والاعتصامات المتكررة منذ سنة 2011 في القطاع، ولاحظوا بأن انقطاع المياه على السكان يتم حتى في فترات يكون فيها إنتاج الفوسفاط متوقفا.
وتعتبر صادرات الفوسفات أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد التونسي، لكن إنتاجه يشهد في السنوات القليلة الأخيرة، تراجعا ملحوظا، ليناهز بالكاد ثلاثة ملايين سنة 2018، أي تقريبا ثلاث مرات أقل مما كان عليه الوضع سنة 2010 (8.2 مليون طن). وقد كلف تراجع انتاج الفوسفات موازنة تونس 6,7 مليار دولار في السنوات الثلاثة الأخيرة، بحسب محافظ البنك المركزي التونسي مروان عباس في تصريحات أدلى بها مؤخرا أمان البرلمان.
حنان جابلي - الرديّف (جنوب غرب تونس)