الديمقراطية في تركيا.. مئة عام من التقلبات وتهديد الاستبداد!
٣ يناير ٢٠٢٣تأسست الجمهورية التركية قبل 100 عام وشهدت البلاد منذ ذلك الحين تحولا من نظام الحزب الواحد إلى نظام متعدد الأحزاب، والانقلاب العسكري في عام 1960 وأعمال عنف استمرت لقرابة عشر سنوات في سبعينيات القرن.
وأعقب ذلك، تدبير انقلاب آخر وتشكيل حكومات ائتلافية ذات أعمار قصيرة خلال تسعينيات القرن الماضي لتشهد البلاد بداية من الألفية الجديدة صعودا للحركات الإسلامية.
وفي ظل هذه النكسات سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، استطاعت الجمهورية التركية التي قامت على أسس وقيم غربية مثل الديمقراطية والمساواة وسيادة القانون والعلمانية، الاستمرار ولتحتفل تركيا العام المقبل بالذكرى المئة لقيام الجمهورية. لكن هذا الأمر يثير تساؤلات حيال قدرة المؤسسات الديمقراطية في تركيا على الصمود.
"مثال مخيب للآمال"
ومنذ تولي رجب طيب أردوغان زمام الأمور في البلاد، تحولت دفة تركيا من الغرب إلى الشرق، إذ ربطت نفسها بشكل أكبر بالقيم الإسلامية وإنشاء تحالفات مع بلدان العالم العربي بالتزامن مع تعزيز انخراطها العسكري خارج البلاد بما في ذلك نشر قوات في الصومال وقطر .
بيد أن مثل التطورات لم تلق قبولا لدى جميع الأتراك وسط مخاوف من أن يمهد ذلك الطريق لحكم استبدادي. من جانبها، تعتقد سينم أدار، المتخصصة في الشأن التركي في "مركز دراسات تركيا التطبيقية" ومقره برلين، أن المسار الذي سلكته تركيا في عهد أردوغان كان سلبيا. وتقول لـ DW "تعد تركيا اليوم مثالا ساطعا على تزايد الممارسات الاستبدادية، حيث ابتعدت البلاد منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بشكل مطرد عن سيادة القانون والفصل الحقيقي بين السلطات".
وتشعر أدار بالإحباط إزاء مستقبل الديمقراطية في تركيا، مضيفة "بعد سبعة عقود من تراكم الخبرات في إجراء انتخابات تنافسية متعددة الأحزاب ودمجها في هيكل مؤسسي غربي، يمكن القول بأن أحد أكثر الأمثلة المخيبة للآمال يتمثل في تلاشي الديمقراطية في تركيا".
تنامي قوة الحركات الإسلامية
قامت الجمهورية التركية على أسس العلمانية على غرار النموذج الفرنسي للفصل الصارم بين الدولة والدين. وبعد أقل من عام على قيام الجمهورية التركية، جرى إلغاء الخلافة العثمانية وإنشاء رئاسة الشؤون الدينية التي تعُرف باسم "ديانت" من أجل منح الدولة مزيدا من السيطرة على النفوذ السياسي للحركات الإسلامية.
لكن الدين في تركيا يلعب دورا سياسيا أكبر في الوقت الراهن مقارنة بالوضع قبل عشرين عاما، ويعود ذلك إلى سياسات أردوغان وخطاباته.
وفي ذلك، تقول أدار إنه منذ قيام الجمهورية، سارت تركيا على "خط رفيع بين الدين والسياسة"، مضيفة أن حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان منذ بداية تصدره المشهد السياسي قبل عشرين عاما أحدث فرقا كبيرا فيما يتعلق "بعمق تغلغل الدين الذي ترعاه الدولة في الحياة الاجتماعية".
وتشير إلى أنه في ضوء ذلك يمكن الحديث عن "اتجاه واضح للتغلغل التدريجي للدين في الحياة العامة وخاصة في العقد الماضي"، مضيفة أنه في ظل حكم حزب العدالة والتنمية تحولت رئاسة الشؤون الدينية "ديانت" إلى لاعب سياسي ذي نفوذ كبير.
وتضيف أدار لـ DW بأن "مؤسسة ديانت اكتسبت قوة أكبر من أي وقت مضى مع تزايد نفوذها السياسي وحصولها على موارد بشكل متزايد. وعقب محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، اضطلعت ديانت بدور رئيسي في إعادة سرد الرواية القائلة بأن النخبة الحاكمة في تركيا تحت قيادة أردوغان تجسد إرادة الشعب التركي وتدافع عن قيم الأمة الأصيلة والوطنية فضلا عن الحفاظ على وحدة أراضي البلاد ".
هل يمكن أن يخسر أردوغان الانتخابات؟
في الثامن عشر من يونيو/ حزيران العام المقبل، سوف يتوجه الناخبون الأتراك إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية. ترجح بعض استطلاعات الرأي أن أردوغان قد يخسر الانتخابات إذا تمكنت المعارضة من توحيد صفوفها واختيار مرشح واحد قوي يستطيع منافسته.
بيد أن هذا الأمر لم يُحسم بعد إذ لم يعلن ما يُعرف بـ "تحالف الطاولة السداسية " الذي يتألف من ستة أحزاب معارضة، حتى الآن مرشحه أو مرشحيه لخوض غمار الانتخابات المقبلة.
ويرغب التحالف المعارض في عودة النظام البرلماني ووضع حدود لصلاحيات الرئيس التي اتسعت بشكل كبير عقب إقرار التعديلات الدستورية الواسعة عام 2018.
وعلى عكس ما يتوقعه كثيرون سواء خارج تركيا أو داخلها، ما زالت تركيا تمتلك مؤسسات ديمقراطية فعالة يمكنها ضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة إلى حد ما، وهو ما ظهر جليا خلال الانتخابات البلدية قبل عامين حيث حقق مرشحا المعارضة فوزا على مرشحي حزب العدالة والتنمية في أكبر مدينتين في تركيا: أنقرة واسطنبول. كذلك يثبت ذلك أن أن نتائج الانتخابات قد ترجح كفة المعارضة ضد السلطة الحاكمة، على عكس الأنظمة الاستبدادية الأخرى مثل روسيا. بيد أن ثمة سؤال هام مفاده: هل المعارضة تمتلك فرصة حقيقية لتحقيق انتصار في الانتخابات المقبلة؟
بدورها، حاولت أدار إجابة على هذا التساؤل، قائلة إن "المعارضة تمتلك الآن فرصة لطرح نفسها كبديل موثوق وقوي للسلطة الحاكمة، خاصة على وقع تزايد حالة الغضب واليأس بين الأتراك إزاء أزمات الحكم إلى جانب تفاقم الأزمة الاقتصادية وتفكك وحدة النخبة داخل التحالف الحاكم". وتؤكد الباحثة في الشأن التركي على أنه من أجل ضمان حدوث انتقال للسلطة يتعين ضمان إجراء انتخابات نزيهة وعادلة في أجواء أمنة.
ماذا لو خسر أردوغان الانتخابات؟
ويتساءل مراقبون: ماذا لو خسر أردوغان الانتخابات؟ وما المسار الذي سوف تسلكه تركيا في حينه؟
يفتخر حزب العدالة والتنمية الحاكم بتحقيق إنجازات دولية مثل نجاح المسيرات تركية الصنع من طراز "بيرقدار تي بي 2" في ساحات القتال خارج البلاد، فضلا عن عزم أنقرة تصنيع مقاتلات تركية وسيارات كهربائية. فما مصير هذه المشاريع إذا ما فازت المعارضة في الانتخابات ووصلت إلى سدة الحكم؟ تؤكد أدار على أن الحكومة الجديدة سوف تمضي قدما في تنفيذ هذه المشاريع بل وضمان تنفيذها بطريقة أكثر عملية وديمقراطية.
وتقول "يُرجح أن تعمل أي حكومة مختلفة على ضمان استمرار التطلعات التركية في تعزيز صناعة دفاعية محلية وبناء اقتصاد قائم على الابتكار والتقدم التكنولوجي. ومن المرجح أن تتسم العلاقة بين مسؤولي المجال الدفاعي والسياسة الخارجية بالمؤسسية وأن تخضع للمساءلة".
مستقبل تركيا الأوروبي؟
وفيما يتعلق بالعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، يتوقع الخبراء أن مستقبل تركيا الأوروبي سيكون في خطر، في حال استمرار المسار الحالي للبلاد.
وترى جيغدم ناس، الأمين العام لـ "مؤسسة التنمية الاقتصادية" البحثية الرائدة في العلاقات الأوروبية-التركية ومقرها اسنطبول، أن العام المقبل سيكون حاسما لمستقبل العلاقات التي تربط تركيا بالاتحاد الأوروبي. وتقول في حوارها مع DW "إذا فازت المعارضة بالانتخابات، فسوف يكون جُل تركيزها على العودة إلى النظام البرلماني في إطار ديمقراطي. وفي ظل هذا السيناريو، قد نتوقع إمكانية إحياء المنظور الأوروبي في تركيا".
وتوكد أن هذا الأمر قد يمهد الطريق أمام عودة أجندة الإصلاح التي طرحها الاتحاد الأوروبي ما سيؤدي "إلى تطوير العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي عن طريق تحديث الاتحاد الجمركي وزيادة التنسيق في مجالات التجارة والطاقة والسياسة الخارجية والأمن والهجرة."
تركيا.. شريك لا يمكن الاستغناء عنه
كما يرى مراقبون أن تركيا قد لا تصبح عضوا في الاتحاد الأوروربي، لكنها سوف تظل شريكا مهما ومتميزا للتكتل الأوروبي. وتقول ناس في هذا السياق "رغم تجميد المحادثات بشأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، فإن أنقرة ما زالت في الهيكل الأوروبي الأوسع كطرف فاعل وحاسم للأمن الأوروبي".
يشار إلى أن تركيا انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952 ولديها ثاني أكبر جيش في الناتو بعد الولايات المتحدة، وهو ما يجعل تركيا تحتل أهمية أمنية رئيسية فضلا عن أنها تقع على الجانب الجنوبي الشرقي لحلف الناتو.
كذلك كانت الحرب الروسية في أوكرانيا فرصة دبلوماسية للحكومة التركية. فمع الأيام الأولى من بدء الغزو الروسي، ظهرت أنقرة بمثابة وسيط بين طرفي النزاع، لا يمكن الاستغناء عنه. وقد بدأت تركيا بالوساطة لحل مشاكل رئيسية نجمت عن الحرب مثل أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ البلاد خاصة وأن أوكرانيا كانت قبل الحرب من كبار مصدري القمح والذرة والشعير وزيت عباد الشمس في العالم. وقد تم توقيع اتفاقية استئناف تصدير الحبوب الأوكرانية بين روسيا وأوكرانيا بوساطة تركيا والأمم المتحدة في يوليو/ تموز في إسطنبول.
ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل قد توفر تركيا المكان الأمثل والأكثر منطقية لاستضافة أي مباحثات سلام بين روسيا وأوكرانيا مستقبلا. وإزاء ذلك، يُتوقع أن تتحقق الوساطة التركية المزيد من النجاحات في المستقبل ما يعني أن العالم قد يجني ثمار الدبلوماسية التركية العام المقبل.
بوراك أونفرين / م ع