التجسس على الصحفيين انتهاك صارخ لحرية الصحافة
١٧ مايو ٢٠٠٦تبدو الأجواء مشحونة في مقر وكالة الاستخبارات الألمانية (BND) بعد تأكد أنباء عن قيامها بعمليات تجسس غير مشروعة على بعض الصحفيين في ألمانيا، وذلك بحجة سد الثغرات الأمنية في جهازها الاستخبارتي ومنع تسرب المعلومات السرية. وبعد كشف النقاب عن هذه الفضيحة انهالت الاتهامات على وكالة الاستخبارات الألمانية من كل حد وصوب، لاسيما من وسائل الإعلام والمؤسسات الصحفية الألمانية، التي اعتبرت عمليات التجسس هذه انتهاك صارخ لحرية الصحافة. وبدأت هذه الأزمة تتفاقم بعد أن أكد تقرير لم يتم نشره بعد للجنة المراقبة البرلمانية في البندستاغ أن وكالة الاستخبارات كانت تراقب عدداً من الصحفيين منذ ثمانينات القرن الماضي حتى السنة الماضية وأنها جندت بعض الصحفيين لكي يتجسسوا على زملائهم مقابل مبالغ مالية. وعلى ضوء هذا التقرير أعلنت الحكومة الألمانية أنها أمرت وكالة الاستخبارات الألمانية بوقف عملياتها التجسسية على الصحفيين، الأمر الذي اعتبره البعض اعترافاً خطيراً، أن الحكومة كانت متسامحة مع هذه الوسائل. ولتوضيح أبعاد هذه القضية وتحديد كيفية قيام وكالة الاستخبارات الألمانية بهذه العلميات من المتوقع أن يتم قريباً نشر التقرير، الذي أعده القاضي الاتحادي السابق غيرهارد شيفير، مما يزيد من صعوبة المأزق، الذي وقعت فيه وكالات الاستخبارات الألمانية.
تحفظ على نشر التقرير
ومن جانبه أبدى سيغفريد كاودر، رئيس اللجنة البرلمانية المكلفة بشئون وكالة الاستخبارات الألمانية، تحفظه على نشر التقرير، الذي يثبت تورط الوكالة في عمليات تجسس على الصحفيين قائلاً: "سيكون لذلك أثراً سلبياً على عمل وكالة الاستخبارات وسيلحق بها أضراراً جسيمة." أما ماكس شتالدر نائب البدنستاغ عن حزب الديمقراطيين الأحرار وعضو لجنة المراقبة البرلمانية فلا يكفيه نشر التقرير ويطالب الحكومة الاتحادية بتقديم معلومات مفصلة عن ملابسات هذه الفضيحة. ويتهم شتالدر الحكومة الاتحادية بأنها تتصرف ببطء، إذ أن عليها "نشر تقرير خاص يظهر مدى إطلاعها على عمليات التجسس على الصحفيين"، على حد قوله. يأتي ذلك بعد أن أعلن اولريش فيلهلم، المتحدث باسم الحكومة الاتحادية، خلال مؤتمر صحفي أن حكومته قد أمرت وكالة الاستخبارات ألا تستخدم الصحفيين كوسيلة لمنع تسرب المعلومات السرية. وأن الوكالة بتصرفها هذا قد تكون قد مست بمصداقية الصحفي كمصدر موثوق للمعلومات". وأضاف فيلهلم: "أعتقد أن بعض المسئولين ذوي المناصب الهامة في وكالة الاستخبارات الألمانية من الممكن أن يفقدوا وظائفهم على اثر هذه القضية. وأن الحكومة الألمانية تأسف لحدوث مثل هذا الأمر". وتابع فيلهلم: "لقد تم إبلاغ وكالة الاستخبارات الألمانية بأن عليها الإجابة على العديد من التساؤلات التي ستطرحها لجنة الرقابة البرلمانية في هذا الخصوص، ومن ثم نستطيع أن نفهم القضية بشكل أفضل".
تورط بعض الصحفيين في عمليات التجسس
وبعد إثارة هذه الفضيحة اعترفت بعض المؤسسات الإعلامية الألمانية ذات المستوى الرفيع كمجلة دير شبيغيل واسعة الانتشار أن بعض موظفيها عملوا لصالح وكالة الاستخبارات الألمانية وزودوها ببعض المعلومات عن زملائهم وعن حياتهم الخاصة. وفي هذا السياق صرح شيفان اوست، رئيس تحرير مجلة دير شبيغيل، في مقابلة مع قناة التلفزيون الألماني ARD أنه سيقوم بعد نشر التقرير "ببحث كل الخطوات القانونية اللازمة لملاحقة وكالة الاستخبارات الألمانية قضائياً." وفي حديث له مع جريدة برلينر تسايتونغ اعترف فولكر فوريتش، رئيس وكالة الاستخبارات الألمانية السابق، بأنه استخدم بعض الصحفيين كعملاء لبعض الوقت وأن الهدف من ذلك كان "منع نشر أي تقارير مسيئة للوكالة ومعرفة مصادر تسريب المعلومات داخلها". أما هانس يورغ جيجر، الذي ترأس الوكالة في الفترة من عام 1996 حتى 1998، فقد أنكر سماحه خلال توليه مهام منصبه بأي عملية للتجسس على الصحفيين. لكن بيرنر شميدبور، مستشار وكالة الاستخبارات، اتهم جيجر بتكليف بعض الصحفيين عام 1996 بالتجسس لمعرفة مصدر تسريب المعلومات السرية داخل الوكالة. وأصر شميدبور على أن المستشار الاتحادي السابق هيلموت كول لم يكن على علم بذلك. وتُعتبر إثارة هذه القضية بمثابة قنبلة سياسية في ألمانيا، لاسيما وأن ألمانيا تعاملت بكل حساسية خلال فترة الحرب الباردة مع أي محاولة للسيطرة على الخدمات الأمنية أو انتهاك حرية الصحافة.
حرية الصحافة أهم من الحيلولة دون تسرب المعلومات
وفي هذا السياق يرى الصحفي والمعلق السياسي هاينز ديلونغ أن وكالة الاستخبارات الألمانية قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء بتجسسها على الصحفيين، وأنه من غير المقبول محاولة التقليل من شأن هذه القضية، إذ العلاقة بين الصحافة و المخابرات على قدر كبير من الحساسية. ويكمن سبب ذلك في تناقض طبيعة عمل كل منهما. فبينما تعمل أجهزة المخابرات في الخفاء لتقديم معلومات إلى الحكومة يهدف العمل الصحفي إلى بحث وتقصي الحقائق لتقديمها إلى الرأي العام. أما مراقبة وكالة الاستخبارات للصحفيين، الذين ينشرون تقارير عن جوانب سلبية لعملها فلا يعد مجرد تجاوز للخطوط الحمراء فحسب وإنما انتهاكاً لحرية الصحافة أيضاً، على حد تعبير هاينز ديلونغ. ويرى الصحفي الألماني أن الحكومة الاتحادية لم تطالب حتى الآن سوى بأمور بديهية وهي عدم التجسس على الصحفيين. ونظراً لأن هذه العلميات تتطلب تصريحاً خاصاً من رئيس الوكالة فمن الواجب كشف ملابسات هذه القضية والكشف عن أسماء رؤساء وكالة الاستخبارات، الذين سموحوا بمثل هذه العمليات. ويوافق ديلونغ على موقف الحكومة الألمانية من هذه القضية أي أن حرية الصحافة تسمو فوق تأمين وإحكام وكالة الاستخبارات مصادر المعلومات في جهازها.