يوتوبيا المدينة المثقفة!
٢٥ أغسطس ٢٠١٢عديدة هي القضايا التي يطرحها كتاب خالدة سعيد "يوتوبيا المدينة المثقفة" وذلك بدءا من العنوان نفسه. فهل هناك مدينة مثقفة وأخرى غير ذلك؟ كيف هي تلك المدينة وما هي مقوماتها؟ وهل ينطبق ذلك الوصف على المدينة التي تعاينها: بيروت؟
يصعب، بطبيعة الحال، الخوض في كل العناوين الداخلية التي ينهض عليها الكتاب، لذلك سأنتقي عنوانا - فصلا- واحدا تفرده الناقدة المعروفة لمجلة "مواقف"، بعدما كانت أفردت فصلا خاصا بمجلة "شعر"، ولكن قبل ذلك أتوقف قليلا أمام "المدينة المثقفة"، فكرة وواقعا، كما هي عند خالدة سعيد.
لا تتأخر الناقدة الرائدة، التي رافقت تحولات الحياة الأدبية العربية منذ أواسط خمسينات القرن الماضي، عن تحديد فكرتها وموضوعها، إذ تقول إن لبنان شهد بين مرحلتي الاستقلال والحرب الأهلية قيام "مؤسسات ثقافية وفنية ذات طموحات خاصة متميزة، تبدو لنا اليوم أقرب إلى أحلام مثالية، هذه المؤسسات رسمت تطلعاتها ومساراتها ما يمكن اعتباره مشروع المدينة المثقفة، المدينة التي تنهض على الفكر والقانون والمعرفة والحياة في الإبداع".
ثم تحدّد خالدة سعيد هذه المؤسسات التي انتدبت نفسها لهذه المهمة "اليوتوبية" بما يلي: الندوة اللبنانية، اللقاء الفيروزي الرحباني، مجلة "شعر"، مجلة "مواقف"، دار الفن والأدب.
والمؤسسات، موضوع درس ومناقشة خالدة سعيد، هي "مبادرات فردية، نهض بها أفراد بلا دعائم، لا اقتصادية ولا طوائفية أو سياسية، فئوية من أي نوع، كانوا أفرادا ينتمون إلى الثقافة وإلى لبنان، أسسوا هامشا ثقافيا واسعا للجميع، ضد منطق النزاع وخارج ساحاته".
جيد، بالطبع، أن خالدة سعيد اعتبرت -رغم نبرتها الحماسية حيال هذه المبادرات- أن الأمر يتعلق بـ"يوتوبيا" وليس بواقع، فما انتهت إليه بيروت من مصائر طوائفية، ومليشياوية وتمزقات سياسية، واجتماعية، واقتصادية يؤكد الطابع اليوتوبي لتلك المبادرات. فلم تصر بيروت أثينا: مدينة القانون والفكر والإبداع.
حاول بعض أفرادها الحالمين ذلك، لكنهم لم يستطيعوا إقامة "المدينة المثقفة". فهذه الأخيرة لا تنهض بمعزل عن نهوض متساوق في البنى كلها: سياسية واجتماعية واقتصادية، وثقافية. قد تتمرد البنية الثقافية، محفوزة بوعي رواد وحالمين، على البنى المذكورة ولكن يصعب استمرارها في مغامرة التمرد، إذ عاجلا أم آجلا، ستعيدها البنى الأخرى إلى سويّتها.
لكن تلك المغامرة البيروتية الحالمة لم تنته إلى فشل كامل. صحيح أنها لم تتمكن من رفع أعمدة "المدينة المثقفة" غير أنها تركت أثرا لا يُمحى في الثقافة والفن العربيين، خصوصا في الشعر.
فمع مغامرات أبكر من مغامرة يوسف الخال (الأديب، الآداب، مثلاً) انطلق البحث عن أفق للقصيدة العربية، ليس في لبنان جديد فقط، بل في مصر والعراق وسوريا كذلك. كانت هناك إرهاصات، خطى، بروق تُرى وتُسمع في الأفق العربي، كانت هناك تمخضات واحتشادات داخلية، تحبل بها الحياة العربية وكان المناخ جاهزا لتلقي الصرخة التي انطلقت من غير جهة وسُمع صداها في غير مكان.
هكذا، عندما قرر يوسف الخال بمعية بضعة شعراء أبرزهم أدونيس إصدار مجلة "شعر" (1957) كان وليد الحداثة الشعرية العربية يدبّ على قدمين غضتين وكان الصراع قد بدأ على تسميته وتربيته وتعيين طريقه في العالم. لم تبدأ مجلة "شعر" من فراغ "حداثي" كامل، كانت هناك مجلة "الآداب" التي مثَّلت دربا آخر في هذه "الحداثة"، وربما شرارة أولى سبقت شرارة "شعر".
لن تعتم الهزيمة التي ستأتي موشحة بأعلام "الدولة الوطنية" العربية المنكّسة عام 1967 أن جبَّتْ، تقريبا، ما قبلها من مشاريع ثقافية عربية مؤذنة بولادة حركة رفض سياسية وثقافية طلعت من قلب الهزيمة. كانت مجلة "شعر" التي عملت على اختطاط توجّه "جماليٍّ" وإبداعيّ خالصٍ للقصيدة العربية نائية ما أمكن عن هدير السياسة الصاخب في الشارع العربي، قد توقّفت منذ بضع سنين.
توقفٌ يمكن ردّه إلى هامشية فاعليها في الثقافة العربية التي كانت مأخوذة، شأنها شأن الحياة العربية، بشعار "الدولة الوطنية" العربية وخطابها القومي المتأجج.
لم يكن ممكنا في مناخ ما بعد الهزيمة، أن يستمر خطّا "شعر" (المتوقفة) و"الآداب" (القومية)، التي صعقتها هزيمة حزيران المذلّة. لا الترفّع الجمالي ولا مذهب "الالتزام" (كما عبَّرت عنه الآداب) أمكن لهما الاستمرار، كان لابدّ من منبر جديد يلتقط المتغيرات الكبرى في الحياة العربية ما بعد الهزيمة ويواكبها. هكذا ولدت مجلة "مواقف" التي أسَّسها أدونيس في بيروت.. عند ذلك المنعطف.. وفي ذلك التوقيت المثالي.
في تلك الفترة كانت قد طلعت ظاهرة المقاومة الفلسطينية انطلاقا من الأغوار الأردنية وراحت تكتسح الفضاء العربي طارحة نفسها بديلا شعبيا للنظام العربي وجيوشه المهزومة، وترافق معها صدور منابر ثقافية عربية جديدة نذكر منها "غاليري 68" في مصر، "أنفاس" في المغرب، "شعر 69" في العراق.
لكنّ هذه المجلات الجديدة لم تتمكن من التحوّل إلى منابر عابرة للقطري والمحلي، كما هو حال "مواقف"، وذلك لأسباب عدة، منها ما له علاقة بأدونيس نفسه وما كونه من رصيد شعري حداثي في العالم العربي، وما له علاقة ببيروت كمركز ثقافي عربي، وامتلاكها فضاء أكثر حرية من العواصم العربية الأخرى، فضلاً عن توافرها على بنية طباعية وتوزيعية وإعلامية متقدمة.
تتساءل خالدة سعيد في هذا السياق قائلة "كيف استطاعت "مواقف" أن تخترق الحصار (نسبيا) وتحقق ما لم تحققه مجلة "شعر" التي قاطعها، في آن واحد، مثقفو اليمين، بل أهل اليمين، ومثقفو الأحزاب القومية العربية على أنواعها، وأيضا، وربما بعنف أكبر، مثقفو الأحزاب اليسارية؟".
إن الجواب، أو محاولة الجواب، على هذا السؤال ضرورية، لأن العنف الذي واجهته مجلة "شعر" والإجماع السلبي حولها محيران، علما أن "مواقف" لم تكن بعيدة في جذريتها عن جذرية مجلة "شعر"!
ثم تصف خالدة سعيد مجلة "مواقف" بأنها كانت ملجأ للمثقفين الهاربين من الأيديولوجيا وسطوة الأحزاب الأيديولوجية وللرافضين للدوغما الحزبية، والأفكار المتخشِّبة التي تحالفت مع النظام القومي العربي من موقع ذيليّ، والأهم من دون أي موقف نقدي تجاهه.
الجواب على تساؤل خالدة يجد تفسيره في اللحظة العربية المتغيرة (ما بعد الهزيمة) وفي الصيغة التحريرية، بل في التوجه الفكري، الذي اختطته "مواقف" جامعة بين دفتيها: الهاجس "الإبداعي" لمجلة "شعر" والاقتراب من القضية القومية الذي كانت عليه "الآداب" والنفس اليساري العربي الجديد الخارج من سطوة الأحزاب اليسارية التقليدية، والمتلاقي في بعض أوجهه مع ثورات الشباب الأوروبي وحركات اليسار الجديد في أميركا اللاتينية.
ولم يكن غريبا، والحال، أن تستقطب الجبهتان "الشعبية" و"الديمقراطية" لتحرير فلسطين أعدادا من المثقفين العرب (والأجانب) أكثر من أيّ حزب يساري تقليدي (الأحزاب الشيوعية المسكوبية تحديدا).
إذن، هزيمة حزيران هي التي غيرت الفضاء العربي، سياسة وثقافة واجتماعا، وصنعت منعطفا في الفكر والكتابة والمنابر، لم يعد يشبه ما كان قائما قبلها، لكنّ هذا المنعطف الذي صنعته الهزيمة لم يجرِ تعميقه للأسف، فالأسس التي لم تسمح بقيام "المدينة المثقفة" لم تنسف تماما. تضعضعت بفعل الهزيمة أوهتزَّت. بدت كأنها آيلة للسقوط، لكنها لم تسقط. تساقط عنها الطلاء القديم الذي تمّ استبداله بطلاء جديد.
استمرت "مواقف" نحو ربع قرن. وهذا عمر مديد بمقياس متوسط الأعمار العربية المقصوفة في المهد. لم تكن "مواقف" فاعلة طوال هذا الوقت. فالاستمرار في الصدور لا يساوي الفاعلية ولا يعني التأثير. يمكنني المجازفة بالقول إنها كفَّت عن التأثير بعد حصار بيروت عام 1982.. بل ربما قبل ذلك.
ولم تكن صدفة أن تصدر مجلة "الكرمل"، برئاسة محمود درويش، بعد نحو أربع عشرة سنة من صدور "مواقف". تلك السنون الأربع عشرة هي "العصر الذهبي" لـ"مواقف".. ولما جاءت "الكرمل" (مستفيدة من صيغة "مواقف" ولكن منفتحة على نبض الراهن أكثر) كان على أدونيس (ومن معه) أن يدرك أن هناك تكلسا راح يطبع مجلته وصيغتها التحريرية وأسماء المتعاقبين على الكتابة فيها عدداً بعد عدد، وأن ثمة دما جديدا بدأ يسري في شرايين الكتابة الأدبية العربية لا يجد له مسربا إلى "مواقف"، لكنّ ذلك موضوع آخر ليس هنا مجاله.
المصدر :الجزيرة (ع.غ)