مرة أخرى يتم الحديث عما يطلق عليه تسمية الألماني البشع وهي صورة ارتبطت بالنازي في الحرب العالمية الثانية وبصفات الغرور والتشبث بحقه دون الاعتراف بحقوق الآخر، فهو يدخر الأموال ويبخل بها على الآخرين، وهو يسعى للهيمنة والسيطرة على كل الأمور. إنها تلك الصورة المرتبطة بزمرة النازيين الذين أضرموا النيران في أوروبا فخربوها و قتلوا الملايين. وبدا الأمر لاحقا وكأن هذا الصنف قد استفاد وتحضّر. غير أن هذه الصورة البشعة طفت مرة أخرى على السطح: فهو عنيف، كثير الاندفاع، وخشن، ولكن في نفس الوقت عادل وملتزم بنفسه إلى ما لا نهاية. إنه ينطلق في ذلك على ما يبدو من مواقف ليست أقل خطورة من مواقف يمينية متطرفة. فهو لازال يريد صياغة أوروبا كما يتصورها في مخيلته دون وجود شعور القلق لديه بسبب ما يقدم عليه من قضاء على جيرانه وتمزيق لهم. ما يهمه فقط هو تمرير الصورة التي لديه عن العالم، وكيفما كان الثمن.
عندما يقرأ المواطن الالماني في هذه الأيام وسائل الإعلام الأجنبية ويتابع المناقشات الدائرة بين الجيران الأوروبيين، فإنه يشعر وكأنه كان خلال السنوات الأخيرة سجينا لأوضاع هوس خفيف. فالألمان كانوا يعتقدون أنهم تمكنوا أخيرا من إقامة علاقات جيدة مع جيرانهم. وربما كانوا يأملون في إقامة علاقات طبيعية على الأقل، فلا تئن تلك العلاقات تحت ظلال الخطيئة الألمانية الكبرى بين 1933 و 1945. ألمانيا حاولت الوصول إلى ذلك على مدى سنوات طويلة، ولا شك عن قناعة حقيقة بذلك، وأيضا من منطلق حنينها لتحقيق أوج حلمها في إيجاد صورة علاقات الجوار الطبيعية.
الرايخ الرابع
في هذه الأيام يبدو أن تلك الأحلام قد تبخرت. ونتعلم الآن أن التاريخ لاينسى. فظلال التاريخ حاضرة وهي مستعدة في أي وقت لإعادة الظلام إلى الواقع. ألمانيا تريد "سحق" اليونان كما صرح نيكولاس ديبون أيغنان، رئيس جناح حزب "فرنسا الواقفة" في البرلمان الفرنسي والمنتقد للفكرة الأوروبية. فهو يتحدث عن مواقف ألمانية باتجاه "الرايخ الرابع" . وبموقف مشابه يتحدث جون لوك ميلنشون، عضو البرلمان الأوروبي ورئيس الحزب اليساري. فهو يصرح أنه لا يمكن المقارنة بين ألمانيا الحالية وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، غير أنه يعتبر أن "الأمر يتعلق بوجود نفس الروح التشاركية ونفس الغطرسة ونفس الموقف الأعمى"، ويضيف ميلنشون قائلا: " للمرة الثالثة تسعى مواقف الحكومة الألمانية المصرة على تهديم أوروبا".
هذا الموقف يشخصه أيضا، ولو جزئيا، الناشر الإيطالي ألدو كاتزولو، الذي كتب مؤخرا في صحيفة كوريرا ديلا سيرا أن "ألمانيا حصلت الآن على ما لم تحصل عليه في حربين عالميتين وهو المحافظة على هيمنتها في أوروبا". مضيفا أن "ألمانيا لاتستخدم هيمنتها بمواقف السخاء وبعد النظر".
انتقاد للرأسمالية وتوبيخ لألمانيا
عند سماع مثل هذه التصريحات يتساءل الألمان ما إذا كانوا قد قاموا بأخطاء خلال السنوات الأخيرة؟ الجواب هو نعم. لقد قمنا بأخطاء. مثل الدول الأوروبية الأخرى استخففنا جدا بالتبعيات الثقافية عند اتخاذ قرارات ترتبط بالقطاع المالي. وكان هانس فيرنر سين من أوائل الاقتصاديين الذين أشاروا إلى الأهمية الكبرى لهذا التأثير، وتجلى ذلك في عملية إدراج الشراكة في الديون منذ ربيع عام 2010. آنذاك قامت الدول الأوروبية بتقديم ضمانات للمصارف الخاصة وأنقذتها.
الآن للدول مطالب نقدية تجاه اليونان. وبتعبير آخر: لم تعد اليونان في موضوع الديون تتعامل مع دائنين خصوصيين، بل مع دول. كما لزم الآن على اليونان أن تتعامل في موضوع الديون مع ألمانيا وغيرها من الدول الدائنة. وقد شكل ذلك بداية ولادة التفكير بأنماط وطنية. وبما أن ألمانيا تشكل الدولة ذات المتطلبات النقدية الأكثر، فقد تكونت بذلك سريعا صورة الألماني البشع وهي الصورة التي انتقلت للظهور على الواجهة. ومن خلالها تلعب صورة الألماني البشع دور الصبي الخبيث، وهو دور ارتبط حتى الآن بالمصارف المتهمة بعدم الضمير. وفجأة تحول موقف انتقاد الرأسمالية إلى موقف توبيخ ألمانيا.
الأشباح التاريخية
أثيرت تلك الأشباح من خلال الطريقة المثيرة التي ارتبطت بنظام تقديم الديون بهدف تمويل ديون أخرى وبالتالي المحافظة على سيولة الدول في الأداء. وتوالت تمويلات الديون، كما تم تنظيمها وتوفيرها من خلال صناديق مختلفة بهدف المحافظة على الدورة النقدية، حيث كان النظام بمثابة كرة ثلج متعاظمة عملت على منع حدوث انهيار للنظام المالي.
لكن المبالغ في هذا النظام كانت لها صبغة افتراضية، فكانت نتائجها اصطناعية وغير واقعية وغير صالحة لهذا القطاع. وساهم في ذلك مواقف التحفظ والتشكك كما هو الشأن بالنسبة لوزير المالية الألماني. فهو لم يثق بهذا النظام سابقا ولا يثق به حاليا. وفي الوقت الذي تأخذ فيه ديون الدولة صورة الأرقام غير الملموسة وتبدو بعيدة عن الواقع، فإن تلك التحفظات تبدو خجولة بالمقارنة. ولكن سريعا ما تصبح قاسية. وحتى بالنظر إلى ما نعرفه في التاريخ عن قساوة الألمان، أفلا يعني ذلك طبعا أن أولئك الألمان القساة قد عادوا من جديد؟ الصحيح هو أن سياسة الديون المفتوحة على مصراعيها تؤدي إلى ولادة الأشباح التاريخية.