هلموت كول يحتفل بعيد ميلاده الثمانين
١ أبريل ٢٠١٠كانت آخر مرة ظهر فيها المستشار الألماني الأسبق هلموت كول أمام الجمهور العام، هي مشاركته في الاحتفالات في العاصمة الألمانية برلين، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بمناسبة مرور عشرين عاما على سقوط جدار برلين. ويفضل كول، الذي سطع نجمه طوال أكثر من ستة عشر عاما قضاها في سدة الحكم، أن يحتفل بعيد ميلاده الثمانين في الثالث من أبريل/ نيسان الجاري وسط حلقة ضيقة من الأصدقاء والمقربين في منزله القريب من مدينة شتوتغارت جنوب غرب ألمانيا.
لكن شخصية "العملاق"، كما يسميه البعض، تجاوزت بحكم الانجازات السياسية والاقتصادية، التي حققها إبان فترة حكمه، كافة الحواجز لتجعل من إعادة تسليط الأضواء عليه حتمية مفروضة على مختلف وسائل الإعلام؛ حتى على تلك التي لم تتوان في كسر شوكته السياسية بسبب ما سمي في نهاية التسعينات بفضيحة الحسابات البنكية السرية في سويسرا لحزبه المسيحي الديمقراطي. فمنذ أسابيع ومختلف وسائل الإعلام تتهيأ لتكريم شخصية هلموت كول الذي اقترن اسمه بالمصالحة الأوروبية وإعادة الوحدة الألمانية .
الوحدة الأوروبية هي المنفذ الحقيقي للوحدة الألمانية
تصنف جائزة رولاند بيرغر لكرامة الإنسان Roland-Berger-Preis كأرقى جائزة في ألمانيا. وستمنح هذا العام، في الـ 26 من شهر أبريل/ نيسان الجاري، للمستشار الأسبق هلموت كول تكريما لجهده من أجل "دعم التعايش السلمي في العالم". وقبل أن يتسلم هلموت كول مقاليد السلطة كمستشار ألماني في الأول من أكتوبر 1982، بعد أن أطاح بالائتلاف القائم آنذاك بين الاشتراكيين والليبراليين، كان زعيم المسيحيين الديمقراطيين يؤمن بأن "الوحدة الأوروبية والوحدة الألمانية وجهان لعملة واحدة"؛ الأمر الذي جعله يعمل باستمرار من أجل اندماج أوروبي أوثق.
وفي هذا الإطار أكد هلموت كول دوما في خطاباته أنه عندما يتم تجاوز انقسام أوروبا إلى معسكرين شرقي وغربي، فسيصبح بمقدور الألمان إعادة وحدتهم. ولتحقيق الفكرة الأوروبية عمل هلموت كول في تواضع سياسي ملفت على توطيد العلاقة مع الجارة فرنسا التي أقام مع حكومتها في ذلك الوقت بزعامة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران ما سمي بمحور بون باريس. وما يزال مشهد الصورة التي التقطها الزعيمان كول وميتران يدا في يد في الـ 22 من سبتمبر/ أيلول 1984 أمام مقبرة فردان راسخا في الأذهان كرمز للمصالحة الألمانية الفرنسية ونهاية لفترة الحروب بين شعوب أوروبا.
وتكريما لجهوده "الحثيثة والثابتة من أجل المصالحة الألمانية الفرنسية والتعاون" سيمنح كول جائزة الإعلام الألمانية الفرنسية لهذا العام في الـ 22 من يونيو/ حزيران المقبل في برلين. ومنذ قمة المجموعة الأوروبية في ميلانو عام 1985 عمل الثنائي الألماني الفرنسي على كسب المؤيدين لمشروع الوحدة الأوروبية الذي توج بحلول عام 1992 بإعلان الاتحاد الأوروبي وإدراج الوحدة النقدية الأوروبية في مطلع 2002. وسبق لهلموت كول أن أعلن في هذا الإطار أن العملة النقدية "ليست وسيلة للدفع فقط، بل هي أيضا جزء من الهوية الثقافية ومقياس للاستقرار السياسي والاجتماعي".
هلموت كول رائد الوحدة الألمانية
وكيفما كانت انتقادات خصوم المستشار الألماني الأسبق لمشواره السياسي فان هلموت كول يبقى في الذاكرة الجماعية للشعب الألماني مستشار الوحدة الألمانية. ويعترف الخبراء من جميع التيارات أن كول نهج دوما سياسة ألمانية بقي هدفها الأسمى إعادة الوحدة لشطري الدولة التي تمزقت عام 1961. ففي وقت مبكر شدد كول في أحد بياناته الحكومية الصادرة في 1987 على أن "سياسة ألمانيا تعني أيضا لم شمل الناس لأنهم شعب واحد. وعليه وجب العمل على أن يبقى الوعي من أجل وحدة الأمة حيا في الأذهان".
واستمر كول الذي حكم ستة عشر عاما، إلى حد أن البعض لقبه بـ "قيصر" ألمانيا، في العمل على كسب ثقة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وانتهز السياسي المحنك اللحظة التاريخية في بداية التسعينات، التي شهدت في حينه تقهقر الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، لانتزاع موافقة الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف على التفاوض لإتمام الوحدة الألمانية في عام 1989. هذه الوحدة التي توجت بانضمام ألمانيا الديمقراطية سابقا إلى مجال سيادة جمهورية ألمانيا الاتحادية في أغسطس/ آب 1990.
مبدأ سياسة التوازن في الشرق الأوسط
وخير وسيلة لمعرفة بعض معالم السياسة، التي اتبعها المستشار الأسبق هلموت كول في منطقة الشرق الأوسط، هي التعرف على شهادات بعض الشخصيات التي تعاملت معه مباشرة مثل أفي بريمور سفير إسرائيل لدى ألمانيا من 1993 إلى 1999. وقد أوضح بريمور في حديث مع دويتشه فيله أن كول هو المستشار الألماني الوحيد الذي قام بزيارتين رسميتين إلى إسرائيل. وكشف بريمور لدويتشه فيله حقيقة تاريخية يعرفها القليلون، وهي أن كول كان الشخص الذي مهّد لإبرام اتفاقية السلام مع الأردن.
وقال بريمور بان "الأردنيين توجهوا إلينا، نحن الإسرائيليين، ببعض الشروط الصعبة ... فلجأنا إلى كول لمعرفة ما إذا كانت لديه أفكار ... وبما أن الأردن كان يعاني من نقص حاد في المياه، فإن كول حشد الأوروبيين تحت قيادته لتطوير منابع المياه هناك، وهو ما فتح الباب أمام اتفاقية السلام". وأضاف بريمور قائلا "تلك الخطوة كانت مصيرية بالنسبة إلينا. وأنا شخصيا أفكر فيها دوما". وعن شخصية هلموت كول السياسية قال سفير إسرائيل الأسبق في ألمانيا إنه " سياسي ذكي، وما كان له أن يستمر في الحكم 16 عاما لو لم يكن يتمتع بتلك الحنكة".
ولا بد من التذكير بأن ألمانيا اعتمدت في عهد هلموت كول ما سمي بسياسة التوازن في الشرق الأوسط. ففي الوقت الذي وقفت فيه ألمانيا بلا حدود إلى جانب إسرائيل، وعلى جميع المستويات نظرا إلى العلاقة التاريخية الخاصة بين البلدين، اعترف عبد الله عبد الله رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني، في حوار مع دويتشه فيله، بأن كول تميز بموقفه الذي سبق به الكثيرين من زعماء العالم. فألمانيا في عهده "كانت أول دولة افتتحت مكتبا تمثيليا لها في الأراضي الفلسطينية المحررة بمدينة أريحا مباشرة في العام ( 1993 ) الذي تأسست فيه السلطة الوطنية الفلسطينية". وقال عبد الله عبد الله إن هذه الخطوة "إشارة رمزية تعني أن كول يريد أن يقف بقوة داعمة لمشروع السلام في الشرق الأوسط، ويريد أن يكون من الأوائل الذين يقفون بجانب الدولة الفلسطينية التي كان مقررا لها أن تقام في عام 1999".
وردا على سؤال حول التوقعات بشأن التأثير السياسي المحتمل الذي كان سيمارسه هلموت كول لو كان ما يزال يدير مقاليد الحكم في ألمانيا، قال المؤرخ الإسرائيلي موشي تسيمرمان أستاذ التاريخ بالجامعة العبرية بالقدس "إنني أفترض أنه كان سيعتمد سياسة تعكس توازنا أكبر كما كان عليه الحال في زمنه ... وأن على الأوروبيين أن يدركوا أنه يجب التمييز بين المصالح الحقيقية وغير الحقيقية لإسرائيل". وفي إشارة إلى الدور الأوروبي المرغوب فيه حاليا في المنطقة قال تسيمرمان إن على الأوروبيين "أن يطوروا الآن، وتحديدا مع باراك أوباما، سياسة تدفع الطرفين بقوة أكبر، وعلى وجه الخصوص إسرائيل، إلى مباشرة مفاوضات سلام والخروج من المأزق الحالي".
القشة التي قصمت ظهر "العملاق" كول
وبعد مرور عشر سنوات تقريبا على تحقيق الوحدة الألمانية اهتز كيان الحزب المسيحي الديمقراطي الذي تزعمه المستشار الأسبق كول. فقد اشتبهت المحكمة الإدارية بمدينة أوغسبورغ بجنوب ألمانيا، في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1999، بتورط حزب كول في التهرب من دفع ضرائب. وتحت ضغط سياسي قوي وحملة إعلامية واسعة، وصفها الكثيرون بالشرسة، اعترف هلموت كول بوجود حسابات مصرفية سرية في سويسرا تابعة لحزبه المسيحي الديمقراطي، بعدما وصف لأيام طويلة الاتهامات بأنها حملة تهدف إلى تشويه سمعته.
وتحمل المستشار الأسبق المسؤولية السياسية عن الأخطاء المالية للحزب المسيحي الديمقراطي خلال فترة حكمه. كما أدت هذه الفضيحة إلى صدور قانون جديد في عام 2002 شدد الرقابة المالية على الأحزاب السياسية لضمان شفافية أكبر فيما يتعلق بالتبرعات المالية التي تتلقاها. وعكرت هذه الفضيحة صفو العلاقات داخل الحزب المسيحي الديمقراطي، واستغلها خصوم هلموت كول للنيل منه كزعيم سياسي لم يرحم معارضيه. وبعد هدوء تلك العاصفة مع مرور الزمن، نجد اليوم أن أنصار كول وخصومه على السواء يعترفون له بحنكته السياسية، كالمستشار السابق غرهارد شرودر الذي حل محله في كرسي المستشارية عام 1998، ليظل كول في ذاكرة الألمان مستشار الوحدة الألمانية.
الكاتب: سيد منعم
مراجعة: أحمد حسو