إلى أين ذهبت المعجزة الاقتصادية التركية؟
٢٦ يوليو ٢٠١٥بالتوازي مع استمرار الاضطرابات السياسية والهجمات الإرهابية الخطيرة في عدد من الدول العربية ووصول شظاياها إلى تركيا، يكثر الحديث عن واقع الاقتصاد التركي وآفاقه. آخر المعطيات تشير إلى أن نسبة نموه خلال الربع الأول من العام الجاري 2015 لم تتجاوز 1.6 بالمائة. وخلال العام الماضي كان معدل النمو بحدود 2.6 بالمائة رافقها نسبة بطالة تطال 20 بالمائة بين الشباب وتراجع ملحوظ في قيمة الليرة التركية. محصلة كهذه ما كانت لتخطر على بال أحد حتى عام 2011 حين كان "النمر الاقتصادي التركي" يحقق سنويا معدلات نمو تراوحت بين 7 و 9 بالمائة سنويا خلال معظم سنوات العقد الفائت.
هذا الأمر أدى، وفي غضون أقل من عشر سنوات، إلى أكثر من مضاعفة الناتج المحلي التركي، الذي يزيد حاليا على 800 مليار دولار، أي ما يزيد على ضعف الناتج المحلي الإيراني، ليصبح بذلك أقوى اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط.
التدهور السريع في النمو التركي خلال السنوات الثلاث الماضية يدفع المزيد من المحللين إلى التساؤل عما إذا كانت "المعجزة الاقتصادية التركية" قد ولت؟ وقد أطلق العديد من الخبراء هذه التسمية للتعبير عن النجاح الاقتصادي التركي الكبير للإسلاميين المتمثلين في حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان. وفي العالم العربي تبنى الكثير من السياسيين وصناع القرار، على ضوء هذا النجاح، الدعوة لتطبيق النموذج التركي للنهوض بالاقتصادات العربية ومواجهة تحديات التنمية.
فضل الأسواق العربية والروسية
بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002 شهدت البلاد حركة بناء ونهضة عمرانية قوية. وشملت المشاريع بشكل خاص السياحة والطاقة والري والبنية التحتية. وبرز من بينها مشاريع عملاقة كالسدود على نهري دجلة والفرات وجسر جديد على مضيق البوسفور ومطار عملاق في اسطنبول ومشاريع أخرى حفزت النمو في مختلف القطاعات.
ومع فشل مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي توجه حزب العدالة والتنمية بشكل متزايد نحو السياحة وإلى أسواق جديدة في روسيا ودول وسط آسيا والعالم العربي. وقد أعطى هذا التوجه أقوى دفعة للاقتصاد التركي منذ عقود، إذ تضاعفت الصادرات التركية إلى العديد من هذه الدول أكثر من مرة في أقل من عشر سنوات. على سبيل المثال، ارتفعت الصادرات إلى روسيا من 11 مليار دولار عام 2004 إلى أكثر من 38 مليار دولار في عام 2008. وخلال الفترة بين 2002 و 2012 ارتفع التبادل التجاري بين تركيا والدول العربية بنسبة وصلت إلى 300 بالمائة، ليصل إلى أكثر من 50 مليار دولار سنويا. وعلى الصعيد السياحي أضحت تركيا أحد أهم الوجهات السياحية في أوروبا والشرق الأوسط، إذ يصل عدد زائريها إلى أكثر من 25 مليوناً في السنة.
تفويت فرصة الإصلاحات الهيكلية
اعتمد الاقتصاد التركي في نهضة البناء والعمران بشكل كبير على الاستثمارات الأوروبية، التي تشكل نحو ثلاثة أرباع الاستثمارات الأجنبية المتدفقة إلى تركيا. التدفق الكبير في الاستثمارات الأوروبية من جهة والنجاح الكبير في دخول أسواق روسيا والعالم العربي من جهة أخرى، رافقهما تفويت فرص القيام بالإصلاحات الهيكلية الضرورية التي يطالب بها صندوق النقد الدولي وكثير من الخبراء. وعلى ضوء ذلك لم يتم تطوير الصناعة التركية لإنتاج التقنيات الحديثة ودخول سوقها العالمية، كما لم يتم إصلاح نظام التعليم القادر على تأهيل كوادر شابة تقود عملية التطوير بالشكل المطلوب، على حد تعبير الكاتب التركي إمرة ديليفيلي في حوار مع دي دبليو.
يضاف إلى ذلك أن ثغرات النظام القضائي التركي واستشراء الفساد، الذي وصل إلى عائلة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان والمقربين منه، زعزع ثقة المستمرين ورجال الأعمال بمناخ الاستثمار ومستوى الشفافية في عقد الصفقات الاقتصادية. ويجد هذا الأمر انعكاسه في تراجع الاستثمارات الخارجية إلى تركيا بنسبة 23 بالمائة خلال عام 2014، حسب بيانات وزارة الاقتصاد التركية.
عوامل متعددة لا تبشر بمستقبل وردي
بالإضافة إلى العوامل الداخلية، بما فيها فشل خطة السلام مع حزب العمال الكردستاني، دخلت عوامل خارجية أدت إلى فرملة نمو الاقتصاد التركي، ومن أبرزها تراجع الاقتصاد الروسي ومعه القوة الشرائية لروسيا على ضوء المقاطعة الغربية لها بسبب الأزمة الأوكرانية. وتفيد آخر المعطيات الرسمية التركية والروسية أن الصادرات التركية تراجعت إلى روسيا بنسب وصلت إلى 36 بالمائة مؤخرا. وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات التجارية مع العديد من الدول العربية كمصر وسوريا وليبيا . إذ تدهورت هذه العلاقات، إما بسبب النزاعات المسلحة في هذه الدول أو بسبب مواقف الحكومة التركية الداعمة للإسلاميين في الدول العربية.
وبالنسبة لمصر، تشير البيانات المتوفرة إلى تراجع الصادرات التركية بنسبة تصل إلى 17 بالمائة خلال العام الجاري مقارنة مع العام الماضي. وبالنسبة لسوريا وليبيا هناك توقف شبه تام للحركة التجارية مع تركيا. كما أن التجارة التركية مع دول الخليج تضررت بشكل كبير بعد توقف حركة الترانزيت عبر الأراضي السورية، التي كان يعبرها سنويا نحو 85 ألف شاحنة محملة بالبضائع إلى السعودية ودول الخليج الأخرى.
استمرار عوامل الفرملة
ومع استمرار الاضطرابات في العالم العربي ووصولها إلى تركيا وفي ظل ضعف الأسواق الروسية والآسيوية إضافة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، فليس أمام تركيا في الوقت الحاضر فرصة لزيادة صادراتها ودفع عجلة اقتصادها. كما أن فضائح الفساد والمخاطر السياسية الناتجة عن الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي أفقدت حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية، ستجعل المستمرين أكثر نفورا من التوجه إلى السوق التركية.
يضاف إلى ذلك أن الحكومة التركية لا تستطيع على ضوء التراجع الاقتصادي وزيادة العجز في الميزانية والتبادل التجاري زيادة الطلب على السلع من قبل المستهلك المحلي بسبب ارتفاع نسبة البطالة واتساع نطاق الفئات ضعيفة الدخل إلى مستوى الأسعار السائدة. وهو الأمر الذي يعني بالمجمل صورة غير وردية للاقتصاد التركي في الوقت الحالي، على حد تعبير البروفسور سيف الدين كوسيل بجامعة بهجيشهر التركية.