الأحياء يروون تفاصيل رحلة الموت
٢١ أبريل ٢٠١٥"ترددت كثيرا، قبل أن أغادر بلدي، ولكن الحياة لم تعد تطاق في سوريا، وصار الموت والحياة متساويين عندي"، هكذا حدثنا ماجد اليوسف (تم تغيير الاسم بناء على طلبه) عن بداية قصته مع الهجرة، وكيف قادته المسيرة من دمشق إلى شمال سوريا، مرورا بتركيا، فالجزائر، ثم ليبيا.
"أنا طالب في الجامعة، كلية هندسة الكمبيوتر، في السنة الثالثة، ولكن دراستي توقفت، وصار الوضع صعبا، لذا قمنا، أنا وأخي، الذي يصغرني بثلاث سنوات، بإقناع والدي أن يبيع سيارته ويقترض مالا من عمي أيضا، كي يعطينا المبلغ ونهاجر عبر البحر إلى أوروبا". وهكذا "أخذت من أبي 4000 دولار، وأخي أخذ مثلها".
قصة ماجد وشقيقه محمود الحزينة يكملها أنهما من أسرة نزحت من دمشق إلى شمال سوريا، ومنها إلى تركيا، لا ينسى ماجد هذا الهم وهو يقول "بمساعدة أصدقاء لنا، ومع وجود مجموعات على الفيسبوك، أسسها مهاجرون وصلوا إلى أوروبا، يتم فيها تقييم المهربين. توجد فيها نصائح: هذا المهرب جيد والآخر محتال احذروا منه. وهكذا تعرفنا على عصابة تهريب موجودة في الجزائر، ومرتبطة بعصابة أخرى في ليبيا".
كان على ماجد ومحمود أن يسافرا بالطائرة من تركيا إلى الجزائر. "الأمر هذا كان سهلا، لأن دخول الجزائر مفتوح أمام السوريين".
ممر عبر الجزائر إلى ليبيا لتبدأ الرحلة
وفي مطار الجزائر تجمّع ماجد ومحمود ورفاقهم من السوريين. "كان عددنا 12 شخصا". وهناك بدأت المرحلة التالية، كما يروي ماجد: "المهرب الأول أخذنا من المطار في الجزائر إلى الحدود الليبية، مقابل 300 دولار عن كل شخص. ثم تسلمتنا مجموعة جزائرية أخرى، أخذتنا من الجانب الجزائري على الحدود إلى داخل الصحراء الليبية. وفي الداخل تسلمتنا مجموعة ليبية نقلتنا باتجاه الساحل الليبي". وبالتحديد إلى منطقة الزوارة على شاطئ المتوسط، في غرب ليبيا. و"هناك بعد استراحة لعدة ساعات قرب الشاطئ، حالفنا الحظ وكانت الرحلة في نفس اليوم الذي وصلنا فيه".
ويواصل ماجد: "عادة يأخذ المهرب 600 دولار عن الشخص الواحد، أجرة الرحلة على المركب من ليبيا إلى إيطاليا، ولكن نحن دفعنا له 1100 دولار عن الشخص، كي يعاملونا معاملة حسنة على المركب ويعطونا طعاما وماء، ويسمحوا لنا بأخذ حقائبنا معنا. ولكنهم خدعونا. لقد انتزعوا منا الحقائب، كي يخففوا الوزن على القارب ويأخذوا عددا أكبر".
ويواصل ماجد سرد حكايته: "اكتشفنا في ليبيا أن كل المهربين مرتبطين ببعضهم، وأنهم ربما عصابة واحدة. فالأمور تتم بشكل علني وكل منطقة تسيطر عليها عصابة واحدة، والجنود يشاهدوننا دون أن يحركوا ساكنا".
في ليبيا تجري الأمور علنا
الصحفي الألماني فولفغانغ باور، خاض تجربة مشابهة بنفسه، وتنكّر مع صديق له كي يبحر على متن مركب بحري من مصر باتجاه إيطاليا، ولكن الرحلة لم يكتب لها النجاح، كما يقول في حديثه لـ DWعربية.
الصحفي باور زار ليبيا أيضا واطلع على تجربة التهريب هناك عن قرب. وهناك في مصراتة وفي الزوارة تجري عمليات التهريب بشكل علني. أما حكومة طبرق فتحارب تهريب البشر عبر البحر، لأنها لا تريد إغضاب الغرب الذي اعترف بها.
عودا إلى قصة ماجد، الذي وصل إلى ألمانيا في نهاية رحلة عذابه: "ركبنا في مركب مطاطي صغير، كي يأخذنا إلى المركب الكبير الذي يجب أن يبحر بنا باتجاه إيطاليا"، يتابع ماجد روايته. "هنا بدأ فيلم الرعب. على المركب كان هناك حوالي 300 شخص. وأمروا كل الشباب بالنزول إلى غرفة المحرك في الأسفل، فيما بقيت النساء والأطفال على سطح المركب. غرفة المحرك ساخنة جدا، والهواء يكاد أن يكون معدوما. ليس هناك سوى فتحة صغيرة في السطح يدخل منها بعض الهواء. حالات إقياء وإغماء كثيرة. الوضع لا يطاق، ولكن ليس باليد حلية"، كما يقول ماجد متنهدا. "هنا خدعونا، لأن من دفع 600 دولار تمت معاملته تماما مثل من دفع 1100 دولار".
ومضت الرحلة، و"خلال ست ساعات وصل مركبنا إلى البارجة"، يقول ماجد. البارجة هي السفينة الحربية لخفر السواحل الإيطالي. وبقية القصة معروفة، فالإيطاليون يأخذون اللاجئين باتجاه مراكز إيواء، ليحصلوا هناك على الطعام والشراب وبقية الاحتياجات.
الملفت للنظر أنّ من قاد المركب هو أحد اللاجئين؛ شخص يمتلك بعض الخبرة في الملاحة "أعطوه جهاز توجيه بالأقمار الصناعية (جي بي إس)، وأيضا هاتف (الثريا) مرتبط بالأقمار الصناعية للاتصال بالطوارئ في حال الخطر"، كما أخبرنا ماجد.
طريق مختلف ومصير واحد
تعددت الطرق والوجهة كانت في النهاية إيطاليا. وكأن كل دروب اللاجئين تؤدي إلى روما، أو هكذا يأمل أولئك اللاجئون، على الأقل. لأن الوصول إلى إيطاليا ليس مضمونا، والموت غرقا كان مصير كثيرين منهم.
وهناك رحلات تنطلق من مصر أيضا، كما حدثنا الصحفي باور الذي خاض التجربة متنكرا. في مصر هناك في النهاية "مجموعة مؤلفة من بضعة مهربين كبار يسيطرون على السوق"، على حد تعبير باور، الذي يشير إلى أن الشرطة المصرية تغض الطرف في أحيان كثيرة عن عمليات التهريب. والبعض من الضباط يتلقى رشاوى، بل هناك شائعة، كما يقول الصحفي باور، مفادها أن "ضابطا كبيرا في الشرطة المصرية هو من المتزعمين لعصابة من عصابات التهريب".
ومن اللاجئين غير الشرعيين من خاضوا الرحلة انطلاقا من تركيا، كما حدث مع بلال الموسى، الذي انتقل من سوريا أيضا إلى مدينة إزمير التركية، كي يهرب باتجاه اليونان. "كنت أدرس طب الأسنان في جامعة خاصة في سوريا. ولكن توقفت عن الدراسة لأني صرت أخاف على نفسي. انتشرت ظاهرة الخطف في دمشق والتنقل لم يعد آمنا".
وهكذا جاءت الفكرة: "نحن مجموعة من خمسة أصدقاء خرجنا من دمشق في شهر آب (أغسطس) 2014، متجهين إلى إزمير. وهناك ذهبنا إلى المقاهي وسألنا الناس حتى عثرنا على المهربين"، يتحدث بلال. "بقينا في مكان قريب من البحر لعدة أيام، إلى أن حان موعد الرحلة في منتصف إحدى الليالي".
الرحلة كلفت 900 دولار ومضت بسهولة ووصل المركب إلى جزيرة رودس. في رودس تم سجنهم لمدة أسبوعين، ثم تم الإفراج عن السوريين. "كان معنا فلسطينيين أيضا، لم يفرج عنهم، فوكلوا محامٍ أخذ من كل شخص منهم 500 يورو، وتم الإفراج عنهم".
وفي اليونان بدأت رحلة بحث جديدة. "صرنا نجول على المقاهي وكان هناك عدد كبير من العرب. دلونا على مهرب في اليونان يؤمن لنا جوازات سفر مزورة لنسافر بالطائرة إلى ألمانيا. أراد منا 3000 يورو، وضعناها عند شخص ثالث، يدفعها للمهرب إذا وصلنا ألمانيا. ولكن لم تنجح العملية"، بحسب بلال.
وهنا كان لا بد من التفكير باحتمال آخر. و"بعد أن سألنا أكثر من صديق على فيسبوك ممن خاضوا التجربة، دلونا على طريقة أخرى، وهي الإبحار من اليونان إلى إيطاليا".
ومرت الأيام، و"بتاريخ 16 تشرين الأول (أكتوبر) عثرنا على مهرب مصري وعد بإخراجنا من اليونان، عبر البحر، إلى إيطاليا مقابل 3700 يورو. نقلنا بسيارات صغيرة إلى جزيرة، لا أعرف اسمها. وفي منتصف الليل كان يفترض أن يبحر المركب باتجاه إيطاليا، ولكن أخبرونا أن الرحلة ألغيت. فنمنا في الغابة، مفترشين الأرض وليس هناك من غطاء". أخبرنا بلال أن معظم المهربين هم من العرب، سواء مصريين أو جزائريين، وغيرهم.
بانتظار الموت
يواصل بلال الحكاية: في اليوم التالي "انطلق المركب الصغير (يخت متهالك)، كان على متنه 42 شخصا. قائد المركب من روسيا ولم يكن يعرف المنطقة جيدا. وبقي يدور من جزيرة إلى أخرى في اليونان. ثم خرجنا وصرنا في المياه الدولية بين اليونان وإيطاليا ولكن نفد الوقود، وبقينا في مكاننا، لا طعام ولا ماء، وضاقت السبل بنا. حالات الإغماء على المركب الصغير كثرت، ولم يعد أمامنا من سبيل"، يواصل بلال سرد قصته.
وبعد حوالي 48 ساعة من التوقف في تلك المنطقة، صرنا ننتظر الموت، فاقدين الأمل بالنجاة.
وبمحض الصدفة، يقول بلال: "كان أحد أصدقائي يمسك بحلقة فيها "ليزر" ويؤشر على ضوء بزغ فوق سطح البحر على مسافة بعيدة. وقال إنها نجمة بزغت. ولكن النجمة صارت تكبر وتقترب منا، ثم عرفنا بأنها مركب. صرنا نصرخ وننادي، علّهم يهتدون إلينا، فاقتربت منا وإذا بها سفينة سياحية عملاقة، على متنها سياح أخذوا يصورونا، واتصلوا بخفر السواحل الإيطالي، الذي حضر بعد ثلاث ساعات وأخذنا إلى جزيرة إيطالية، وهناك بدأت الحياة تعود إلى عروقنا التي كادت أن تجف".
حلم بلال أن يدرس طب الأسنان في ألمانيا. وماجد لديه حلم مشابه بأن يكمل دراسة هندسة الكمبيوتر. وشقيقه محمود يريد أن يدرس أيضا، ولكن لم يقرر التخصص بعد.
بلال وماجد ومحمود مثال حي لألوف ممّن ركبوا الزوارق والسفن المتهالكة، مقابل مبالغ طائلة حتى وصلوا ضفاف أوروبا عبر أمواج البحر الأبيض المتوسط، ولكن آلاف الأشخاص غرقوا في هذا البحر الذي يواصل ابتلاع الأحلام.