مونديال قطر ـ حصيلة بين الإنجاز الرياضي والجدل السياسي
٢٣ ديسمبر ٢٠٢٢تحولت دولة قطر قبيل وأثناء المونديال إلى مركز اهتمام عالمي، ليس فقط بسبب الجدل الذي أثارته دول غربية بشأن قيم التعددية (شارة حب واحد) ووضع الأقليات بكل أطيافها وكذلك حقوق العمال المهاجرين، ولكن أيضا بسبب أجواء التشويق والإثارة التي عرفتها أطوار المنافسات بين أكبر القوى الكروية في العالم.
لقد تمكنت قطر من رفع راية التحدي، حيث أظهرت بإجماع المراقبين والاتحاد الدولي لكرة القدم قدرتها على تنظيم حدث عالمي بحجم كأس العالم لكرة القدم. كما تمكنت هذه الدولة الخليجية من تعزيز قوتها الناعمة في العالمين العربي والإسلامي وفي دول الجنوب عموما. فيما تبقى التساؤلات مفتوحة بشأن وضع حقوق الإنسان في هذا البلد. فالمونديال طرح أيضا سؤال العلاقة بين الرياضة والسياسة وتحول التظاهرات الرياضية العالمية إلى ساحة مواجهة بين منظومات قيم مختلفة وأحيانا متناقضة.
الجدل اندلع في الواقع قبل 12 عاما، منذ الإعلان عن فوز قطر بتنظيم هذا الحدث العالمي، كأول دولة عربية تحظى بهذا الشرف، إذ سرعان ما ظهرت اتهامات بالفساد وانتقادات بشأن حقوق العمالة الوافدة والتمييز ضد أفراد مجتمع الميم. ولكن هل جعلت الحصيلة الرياضية للمونديال الجدل حول القيم يتوارى للوراء؟ صحيفة "نويه تسوريخه تسايتونغ" (19 ديسمبر/ كانون الأول 2022) كتبت بهذا الشأن معلقة "نجحت قطر في إقناع العالم بأنها تتمتع بمعايير عالية جعلت كأس العالم نجاحًا للمضيفين. كل الجدل الذي دار في الفترة التي سبقت المونديال حول وضع العمال المهاجرين وكذلك وضع المثليين والمثليات لم يؤثر على أجواء البطولة. كان مستوى التنافس الرياضي جيداً وكان الجمهور راضياً. ما بدأ كحالة خاصة انتهى بنهائي أحلام لا يحتاج إلى الاختباء وراء أي بطولة عالمية أخرى. (..) أظهر المونديال أيضا لأوروبا وأمريكا الجنوبية أن مشاركة الأفارقة والأسيويين لم تعد مشاركة شكلية. وبالتوازي مع ذلك هناك إدراك متزايد بمنظومة القيم والأخلاق، خاصة وضع المثليين والمثليات".
مونديال قطر ـ احتكاك بين قيم الغرب والشرق
ماذا تبقى لنا من كأس العالم في قطر؟ سؤال شائع تكرر في ألمانياعلى حد قول توماس فيلر معلق إذاعة "دويتشلاندفونك" الذي كتب (22 ديسمبر/ كانون الأول) "إذا نظرنا إلى قطر، يمكن للمنتقدين والمؤيدين الاتفاق على قاسم مشترك واحد على الأقل: استضافت قطر كأس العالم لعام 2022. دولة لا تتوافق سياستها ومعتقداتها الدينية مع قيمنا الغربية. لكن ألا يسري هذا الأمر أيضا على مناطق أخرى في العالم؟" وشددت الإذاعة الألمانية على أن "قطر دولة لا تحترم حقوق الإنسان، خاصة الأقليات الجنسية المختلفة"، وأضافت: "لا يمكننا التوفيق بين هذا الوضع وبين معاييرنا وأفكارنا حول قيم التعايش. يمكننا أن ننتقدها وندينها ونرفضها. لكن هل بإمكاننا تغيير ذلك؟"
من جهة أخرى رأى معلقون أن المنتخب المغربي لكرة القدم قام في مونديال قطر بالترويج لقيم الترابط الأسري من خلال طقوس احتفال اللاعبين مع أمهاتهم وتقبيل رؤوسهن بعد كل مباراة.
وكانت احتجاجات لاعبي المنتخب الألماني قبيل أول مبارياته في البطولة، ضد منتخب اليابان، قد أثارت اهتمام الإعلام العالمي، حينما وضعوا أيديهم على أفواههم، تنديدا بعدم سماح الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بارتداء شارة "حب واحد" متعددة الألوان، التي تشير لقيم التسامح والتعدد، بما في ذلك الميولات الجنسية للأشخاص. وكانت هذه الخطوة من أبرز مظاهر التوتر بين اتحادات دول أوروبية لكرة القدم والدولة المستضيفة للمونديال.
حرب الرموز ـ ميسي والبشت القطري
أدى وضع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد "البشت" التقليدي الأسود المطرّز بخيوط ذهبية على أكتاف النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي قبيل رفع كأس العالم، إلى اندلاع جدل حول ما إذا كانت البادرة مناسبة أم لا. وذهب بعض المعلقين الأوروبيين إلى القول إنه لم يكن من اللائق من قبل الأمير حجب قميص ميسي الرياضي بالبشت أثناء إعطائه الكأس. ويتعلق الأمر بلباس تقليدي يرتديه الرجال في الأعراس والحفلات والمناسبات الرسمية في دول الخليج، كعلامة تقدير واحتفاء. ويستغرق تصميم كل بشت حوالي أسبوع، وهو ثمرة سبع مراحل يقوم خلالها خياطون مختلفون بتطريز الياقة والذراعين بخيوط ذهبية. وبهذا الصدد، انتقد المدير العام السابق لاتحاد كرة القدم الألماني أندرياس ريتيغ رئيس الاتحاد الدولي للعبة جياني إنفانتينو للشكل الذي اتخذه حفل توزيع الجوائز في حوار مع قناة "سكاي.تي.في" (19 ديسمبر/ كانون الأول).
وقال بهذا الصدد إن وضع البشت على أكتاف ميسي "لم يكن جديرا بحفل توزيع جوائز كأس العالم"، وهو أمر لا ينبغي استغلاله. واتهم ريتيغ إنفانتينو بخلق "موقف مناهض لأوروبا" في مونديال قطر وفقا لمقولة "الأوروبيون سيئون ضد بقية العالم". وحذر ريتيغ من أن كأس العالم 2030 يمكن أن تقام في المملكة العربية السعودية، وهي كقطر يتم انتقادها في الغرب بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. وقال ريتيغ "لكن لا يكفي أن تكون ضد شيء ما. أتوقع من الأوروبيين أن يفكروا في مرشح منافس". وسيرشح إنفانتينو، الذي تعرض لانتقادات شديدة في ألمانيا، دون منافس معارض في الانتخابات المقبلة لرئاسة الفيفا في العاصمة الرواندية كيغالي في مارس / آذار المقبل.
موقع إذاعة "دويتشلاند فونك" الألمانية (22 ديسمبر/ كانون الأول) كتب معلقا "ما فهمه البعض على أنه تكريم من الأمير لملك كرة القدم هو كل شيء: غسيل رياضي مثالي، صورة مثالية لتلميع صورة قطر. الأسطورة الحية (ميسي) وكأس العالم والرداء التقليدي سيظلان مرتبطان فوتوغرافيًا إلى الأبد".
مصالحة خليجية .. وأواصر العربية
من قال إنه لا علاقة للسياسة بالرياضة، عليه تأمل صور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي حل كضيف شرف على حفل افتتاح المونديال، وارتداء أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وشاحًا أخضر بألوان علم المملكة، إشارة إلى نهاية القطيعة الدبلوماسية بين البلدين. ونفس المنحى رسخته زيارة رئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد في استعراض واضح على نهاية الأزمة الخليجية التي كادت أن تقود، في مرحلة من المراحل، إلى ما لا تحمد عقباه. المثير أيضا في مونديال قطر هو حضور الأعلام الفلسطينية في مدرجات الملاعب ومن خلال المنتخب المغربي الذي وصل لنصف النهائي في أول إنجاز عربي وأفريقي من نوعه. ونجحت قطر بهذا الصدد في حشد العرب والمسلمين.
وحدث كل هذا تزامنا مع توجيه السلطات البلجيكية اتهامات لأربعة أشخاص مرتبطين بالبرلمان الأوروبي بسبب مزاعم أن قطر أغدقت عليهم الأموال للتأثير على عملية صنع القرار في المؤسسة التشريعية الأوروبية وهي الاتهامات التي تنفيها قطر. صحيفة "التايمز" البريطانية (19 ديسمبر) كتبت بهذا الصدد معلقة "مونديال هذا العام هو نسخة من أكثر النسخ إثارة للجدل من الناحية السياسية (..) لفترة طويلة قبل انطلاق المنافسات، تم التركيز على الدولة المضيفة وسجلها في مجال حقوق الإنسان، وتعاملها مع العمال المهاجرين ومناوراتها السياسية المشكوك فيها. في الوقت الحاضر هذه الأشياء مهمة، لكن الإفراط في عرض فضيلة المرء يترك طعمًا مرًا في الفم. ما كان مهمًا في النهاية هو كرة القدم. ونادرًا ما كان هناك مهرجان غني مثل ذلك في الإمارة الصحراوية. من هزيمة الأرجنتين الافتتاحية أمام السعودية إلى التأهل البطولي للمغرب إلى نصف النهائي، لم تكن هناك مباراة لم تكن تجربة مثيرة. حتى خيبة الأمل من هزيمة إنجلترا كانت مقنعة بمستوى اللعب الجيد بشكل عام وبالروح الرياضية والسلوك الجيد من قبل الجماهير".
نجاح الرياضة فيما فشلت فيه السياسة؟
وصول المنتخب المغربي لنصف نهائي كأس العالم شكل إحدى أكبر المفاجئات في مونديال قطر وتجاوزت ارتداداته الأبعاد الرياضية لتشعل من جديد مشاعر الانتماء للوحدة العربية والأفريقية. فقد تمكن "أسود الأطلس"، بقيادة المدرب المُحنّك وليد الركراكي، بذلك من تحقيق أنجاز غير مسبوق ولأول مرة في تاريخ المغرب والعرب والأفارقة، بعد تعادله في أولى مبارياته مع كرواتيا قبل أن ينتفض محققا انتصارين متتاليين على بلجيكا وكندا في الدور الأول ليتصدر المجموعة السادسة بسبع نقاط وليهزم بعد ذلك على التوالي كل من إسبانيا والبرتغال.
واحتفل الجزائريون بإنجاز جارهم المغربي على الرغم من أن الإعلام الرسمي في بلادهم تجاهل ذكر اسم المغرب نهائيا في هذه المنافسات، بل وقيل إن المدير العام للتلفزيون الجزائري تمت إقالته، بعد أن سمح ببث خبر تأهل المنتخب المغربي لدور نصف النهائي. ويذكر أن الجزائر قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع جارها الغربي بسبب خلافات كثيرة أهمها قضية الصحراء التي تسعى حركة البوليساريو إلى إنشاء دولة مستقلة فيها بدعم من لجزائر، فيما يؤكد المغرب أن الحكم الذاتي هو أقصى ما يمكن أن يطرحه لحل هذا الصراع الإقليمي.
إنجاز المنتخب المغربي تسبب في شيوع لدى الشارع العربي من المحيط إلى لخليج، بل وحتى في بلدان أفريقية وأسيوية. وأطلقت نجاحات المنتخب المغربي المدوية كذلك العنان للفرحة داخل مخيمات اللاجئين السوريين مثلما ظهر جليا في مقاطع مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، ودفع نجاح "أسود الأطلس" الفلسطينيين أيضا على الخروج للاحتفال بإنجازات المغرب، فرفعوا الأعلام المغربية وأطلقوا الألعاب النارية قبل أن تتدخل الشرطة الإسرئيلية وتمنعهم، مثلما حدث في باب العامود بالقدس. بل حتى الإسرائيليين من أصل مغربي خرجوا للشوارع للاحتفال بانتصارات أسود الأطلس.
حسن زنيند