مهاجرة سورية: حين تلتقي إيقاعات الثقافات المختلفة
١٣ أغسطس ٢٠١٦كنت جالسة في القطار بعد يوم مرهق بانتظار محطتي المعهودة، أنظر من نافذته فلا أرى شيئاً لازدحام أفكاري التي جعلت الرؤية خيالية. فمنذ بداية غربتي لم أستطع قراءة كتاب في الطريق، إذ أملك في رأسي من الذكريات والأفكار ما قد يأسرني سنوات لقراءته.
توقف القطار قليلاً، فشدّت انتباهي سيدة كبيرة في السن، أظنها قد تجاوزت السبعين. كانت في قمة الأناقة، شعر أبيض مصفف بطريقة كلاسيكية، هندام أنيق، تحمل حقيبة يدها كملكة بريطانيا، في تجاعيد وجهها حكايات وحكايات، وفي تجاعيد يديها، التي تمسكت بحافة مقعدي، تعب السنين. سارعتُ بالنهوض وعرضت عليها الجلوس في مكاني، ولكنها لم ترغب ذلك بقولها بأنها مرتاحة ولا حاجة لها للجلوس. لم أشأ كثرة الإلحاح ولكنني ظللت واقفة بمحاذاتها تاركة مقعدي شاغراً. إلى جانبها، أجبت نظراتها المتسائلة مبررة تصرفي العفوي الذي اعتده في بلدي، أنني لا أقصد الإساءة بل على العكس، فقد نهضت بدافع الاحترام. إذ عرفت من أصدقائي سابقاً، أن تصرفي قد يساء فهمه، فكأنني بذلك أفترض عجزها.
كنت أقف إلى جانبها في ذاك القطار أراقب الطريق تارة، وأُخرى أقلب فيها على هاتفي صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الذي ضجّ بالأطباق العربية التي تجمع المغتربين والألمان على مائدة واحدة. هذا اللون الطيب للمجتمعات العربية، فعندما تسبقنا اللغات ونتلعثم بمفردات لغتنا الأم، نجد أن لغة المحبة والود، هي اللغة المعتمدة الوحيدة إلى حين إتقان لغة البلد الجديدة.
ذكرتني تلك الصور المنتشرة على الإنترنت، بالجارة الألمانية التي اعتادت سؤالي"ما المناسبة؟؟"، كلما قدمت لها طبقاً من تحضير والدتي، لأجبيها كالمعتاد بأنها عادة عربية بين الجيران. في المرة الأخيرة التي طرقت بابها، فتحت لي الباب مبتسمة ولم تطرح سؤالها بل قالت: "لقد استمتعت برائحة الطعام اليوم.. وقلت لزوجي بأنك ستحضرين بعد ساعة أو ساعتين لأتعرف على طبقٍ سوري جديد!". ضحكت آنذاك لاندماجها المفاجئ مع عاداتنا.. إذ إن إيقاع الحياة الاجتماعية هنا، لا ينسجم مع إيقاع ما اعتدناه، الجيران هنا غرباء، وفي بلادنا قد يكونوا بمثابة العائلة الثانية. ومن جانب آخر، سررت جداً بأن ما نحتفظ به من طقوس لطيفة بين الجيران قد يرسم ابتسامة على وجوه غريبة.
كان القطار يمضي مسرعاً، ومازلت أقف إلى جوار تلك السيدة، أتنقل ما بين صفحات الإنترنت وبين أفكاري أحياناً. استوقفتني فكرة (الإحسان للجار) تلك.. حقاً بأنها قيمة عميقة وأساسية، وخصوصاً بين تلك الدول المتجاورة التي تتشارك الحدود واللغة والآمال والآلام، كما يدّعون، فحتى عندما تُغلق السفارات وتُفرض التأشيرات بشروط تعجيزية، ما زالوا يتبادلون أفخم أطباق المؤامرات والمكائد.. وإن احترقت الطبخة، لا بأس، فالوضع كله في تلك المنطقة (شوربة).
ومن الملاحظ أيضاً بين صفحات التواصل الاجتماعي، وكأن اللاجئ يُحسد على لجوئه في "فردوس أوروبا"، يتلقى وابل من الشتائم التي تأتيه من كل حدب وصوب، كأنه المسبب في الحروب ورغبته ببناء حياة آمنة، ما هي إلا تخاذل وخيانة، غير مدركين أن رحلة الاندماج والتأقلم لا تقل صعوبة عن عبور البحر. فالاختلافات الثقافية كفيلة بوحدته. قالت لي صديقة: "لا أحد يبالي إن بكيت أو ضحكت كالمجانين في الشارع.. لا أحد يسألني ما بك مثلاً؟ هل ذلك نتاج عن لا مبالاة أم إسراف في احترام خصوصية الآخر، أم أننا في بلادنا نسأل بدافع الفضول لا الاهتمام؟". فأجبتها باقتضاب كما أجابني صديقٌ ألماني يوماً: "أحترم خصوصيتهم ليحترموا مساحتي، وإن أحتاج أحد المساعدة فليطلبها، غير ذلك لا شأن لي بالآخرين".
صحوت من صخب الأفكار والذكريات التي رافقتني في ذلك القطار، حيث بقيت واقفة إلى جانب السيدة الألمانية والمقعد الذي ظل شاغراً بين ثقافتين مختلفتين إلى أن وصلت محطتي أخيراً، فنزلت ومشيت متجهة إلى بيتي مع رزمة جديدة من الأسئلة والأفكار تدور في رأسي.