"ملاك اللاجئين" متأهب لتلقي استغاثاتهم وإنقاذهم من الغرق
١١ أكتوبر ٢٠١٥جاء طلب المساعدة من قارب بلاستيكي، كان على متنه مئات من الأشخاص منحشرين بعضهم بجانب بعض، عندما تسرَّبت المياه إلى داخله من خلال ثقب. هذا القارب الصغير - الذي تم صنعه من أجل عشرة أشخاص - راح يغرق على نحو متواصل من خلال وزن الركاب الكثيرين. وعندما قام موسي زريع بإبلاغ خفر السواحل الإيطالي، كان القارب منغمرًا لنصفه تحت المياه.
ولكن في هذه المرة سارت الأمور بسرعة كافية، ووصل المنقذون في الوقت المناسب. وبالإجمال فقد أحضروا في عطلة نهاية الأسبوع أكثر من ثلاثة آلاف لاجئ من متن ثمانية عشر قاربًا من البحر الأبيض المتوسط. والكثيرون منهم يدينون بإنقاذ حياتهم للأب موسي زريع، تمامًا مثل آلاف غيرهم.
صباح دافئ في شهر آب/أغسطس. والأب موسي زريع البالغ من العمر أربعين عامًا، له صوت عميق ولحية يتخللها الشيب، يتهاوى جالسًا على كرسي في غرفة الاجتماعات في الأبرشية الكاثوليكية ويفرك عينيه. ويقول إنَّه اليأس التام، هذا الذي يدفع الناس إلى القوارب: "فهم يريدون ببساطة الحياة، حتى وإن كان ذلك يعني بالنسبة لهم تقبُّلهم خطر الموت".
زريع يبدو منهكًا. يستريح أيامًا قليلة في إرلينسباخ، وهي قرية في سويسرا الناطقة بالألمانية. ومن هنا يهتم هذا القس، الذي هرب في عام 1992 من إريتريا إلى أوروبا، برعاية أبناء بلده البالغ عددهم ستة آلاف وخمسمائة كاثوليكي، وذلك بتكليف من الفاتيكان. بيد أنَّه يقضي معظم وقته متنقلاً، حيث يزور مخيَّمات اللاجئين في إثيوبيا وإيطاليا، ويتحدَّث في مؤتمرات الأمم المتَّحدة، ويناقش حول سياسة اللجوء، وكذلك يلتقي بأعضاء من البرلمان الأوروبي في بروكسل.
وهو يسعى دائمًا إلى شيء واحد. وحول ذلك يقول: "هؤلاء الناس يريدون فرصة". ومن أجل تمكينهم من الحصول عليها يبقى الأب موسي زريع وباستمرار في حالة تأهب. لا سيما وأنَّ رقم هاتفه كثيرًا ما يعتبر بالنسبة للكثيرين من لاجئي القوارب بمثابة الأمل النهائي الأخير.
المساعدة في حالات الطوارئ
في عام 2003 تلقى موسي زريع أولى نداءات المساعدة من لاجئين وقعوا في ورطة وهم في عرض البحر الأبيض المتوسط. وقد حدث ذلك بعدما تحدَّث صحفي حول الوضع الكارثي الذي يعيشه الإريتريون في داخل سجن في ليبيا، كما أجرى مع الأب موسي زريع اتصالاً هاتفيًا.
خربش أحد اللاجئين في وقت لاحق الرقم على أحد جدران السجن، وكتب: "اتَّصلوا هنا إذا كنتم في خطر". وعلى جناح السرعة انتشر الرقم في مخيمات اللاجئين المسلمين والأرثوذكس والمسيحيين القادمين من إريتريا والصومال وإثيوبيا، والموجودين في سجون التعذيب الليبية، مثلما انتشر أيضًا بين السوريين، الذين انطلقوا من شمال أفريقيا إلى إيطاليا في رحلة محفوفة بالخطر.
ومنذ ذلك الحين يرنُّ هاتف موسي زريع من دون توقُّف تقريبًا. فعندما تتعرَّض قوارب اللاجئين لخطر الانقلاب أو عندما يتعرَّض الباحثون عن اللجوء لخطر الموت عطشًا، يتَّصلون به من أحد هواتف المهرِّبين التي تعمل بالأقمار الصناعية. ويقوم موسي زريع بتحديد موقع القارب ويرسل البيانات إلى خفر السواحل الإيطالي، الذين ينظمون المساعدات.
وبحسب خفر السواحل الإيطالية فقد أنقذ موسي زريع حياة آلاف من الناس. ولذلك يطلق على الأب زريع المرشَّح لجائزة نوبل للسلام اسم "ملاك اللاجئين". والكثير من اللاجئين يسمونه ببساطة فقط: "الأب موسي".
ملتزم بالدفاع عن حقوق اللاجئين
ولد موسي زريع في عام 1975 في مدينة أسمرة، عاصمة إريتريا في يومنا هذا. وماتت والدته عندما كان عمره خمسة أعوام، واختطف والده من قبل المخابرات، وهكذا تولـَّت جدته رعايته ورعاية إخوته. وفي سنِّ السادسة عشرة هرب إلى روما. وهناك تعرَّف على كاهن بريطاني، كان يساعد اللاجئين القُصَّر في إجراءات تقديم طلبات اللجوء. كان موسي زريع يترجم له وقد اتَّصل من خلاله بمبشري سكالابريني، وهم رهبان في أخوية كاثوليكية، يهتمُّون باللاجئين والمهاجرين.
درس موسي زريع ثلاثة أعوام في مسقط رأس مؤسِّس أخوية سكالابريني، ومن ثم أمضى سبعة أعوام في بعثة لأخوية سكالابريني في روما. وهنا التقى بأفارقة لاجئين كانوا يعيشون في الشارع، ولم يكن لديهم لا عمل ولا إقامة. نظم موسي زريع مسيرات احتجاجية وكان ينتقد بشكل علني وعلى نحو متزايد سياسة اللجوء الأوروبية.
وفي عام 2006 أسَّس منظمة "وكالة الحبشة"، التي يعمل من خلالها من أجل حقوق اللاجئين. يتحدَّث الأب زريع في الاحتفالات التذكارية التي تقام للاجئين الذين لقوا حتفهم في أثناء عبور البحر الأبيض المتوسط، وفي التلفزيون الإيطالي، ويناشد منظمات الإغاثة من أجل تقديم المسؤولين عن حطام السفن إلى العدالة.
هدم الأحكام المسبقة
ويحاول كذلك هدم الأحكام المسبقة. وحول ذلك يقول موسي زريع إنَّ "الكثيرين من الأوروبيين لا يفهمون مِنْ ماذا يهرب هؤلاء الناس". ولهذا السبب فهو يلقي محاضرات في المدارس والجامعات. ثم يتحدَّث حول ما يحدث في بلده إريتريا، التي تعتبر واحدة من الديكتاتوريات العسكرية الأكثر وحشية في العالم، كثيرًا ما يُجبَر فيها الشباب على قضاء حياتهم في الخدمة العسكرية، ويعدّ فيها التعذيب والأعمال التعسفية جزءًا من الحياة اليومية.
يروي موسي زريع كيف أنَّ الناس كثيرًا ما يسيرون من أجل رغبتهم في الحرية سيرًا على الأقدام إلى السودان وإلى مصر أو عبر الصحراء، ومنها إلى ليبيا، كيف أنَّهم كثيرًا ما يمضون في رحلة تستمر طيلة أعوام. كما أنَّه يتحدَّث أيضًا حول القنابل في سوريا، وحول أعمال النهب والتدمير.
"اللاجئون ليسوا أعداءكم"، مثلما يقول للمستمعين. ويضيف: "هم في حاجة إلى مساعدتكم". ويلتقي باستمرار مع أهالي البلديات ومع اللاجئين المسلمين والمسيحيين. ثم يجلسون جميعهم حول طاولة واحدة ويتناقشون حول الإسلام، والإيمان، ويسوع. وهو كمسيحي يريد أن يوضِّح أنَّ الإسلام لا يعتبر متطرِّفًا على الإطلاق، وأنَّ هناك بعض الأشخاص الذين يسيئون للدين بهدف تبريرهم لعنفهم، وأنَّ اللاجئين يريدون قبل كلِّ شي شيئًا واحدًا: السلام.
يرد موسي زريع على اتِّهامات النقَّاد الذين يدَّعون أنَّه ومن خلال مساعدته يُشجِّع اللاجئين على المجازفة بهذه الرحلة الخطرة عبر البحر الأبيض المتوسط وأنَّه يساهم في عمل المهرِّبين. وحول ذلك يقول: "نحن نقول مرارًا وتكرارًا للناس الموجودين في المخيمات في شمال أفريقيا ما مدى خطورة عبور البحر. ولكنهم يردون: ’يجب علينا على الأقل أن نحاول ذلك‘".
تحلوا بالصبر!"
وبما أنَّه يخشى من عدم تمكنه من الرد على المكالمات الهاتفية، مثلاً بسبب انشغاله في قُدَّاس أو معمودية، فقد بات لديه منذ بضعة أشهر مساعدون منتشرون في جميع أنحاء أوروبا ويتولون على مدار الساعة الرد على هاتفه من خلال رقم إنذار ثانٍ. وبالإضافة إلى ذلك كثيرًا ما يرد الأب موسي زريع نداءات استغاثة حتى في ساعات الفجر. يرد على هذه المكالمات بقول: "سأحضر للمساعدة، تحلوا بالصبر!"
يقول الأب زريع كثيرًا ما لم يستغرق الأمر سوى ثلاث ساعات حتى يتم تعقُّب قارب ما من قبل برنامج الإنقاذ المعروف باسم "بحرنا " Mare Nostrum، والذي تم تأسيسه من قبل البحرية وخفر السواحل الإيطاليين بعد أن انقلب في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2013 قاربٌ كان على متنه أربعمائة شخص قبالة جزيرة لامبيدوزا الإيطالية. ولكن منذ أن تم استبدال فريق الإنقاذ هذا من قبل بعثة الاتِّحاد الأوروبي "تريتون" التابعة لوكالة حماية الحدود فرونتكس، فقد صار كثيرًا ما يستغرق الأمر يومين أو ثلاثة أيَّام. وكذلك كثيرًا ما لا تتوفَّر لدى المنقذين القدرة على البحث عن القوارب، مثلما يقول موسي زريع.
والقس موسي زريع مقتنع بأنَّ عدد الأشخاص، الذين يفقدون حياتهم عند عبورهم البحر، سوف يزيد زيادة مأساوية إذا لم يغيِّر الاتِّحاد الأوروبي سياسته التقييدية. وفي هذا الصدد يقول الأب موسي زريع: "كثيرًا ما يترك اللاجئون كلَّ شيء وراءهم. فهم لا يحصلون على تأشيرة سفر، وذلك لأنَّهم فقدوا الوثائق الضرورية".
ولهذا السبب فإنَّ موسي زريع يقول ليس لدى اللاجئين أي خيار آخر سوى الاستجابة لعروض المهرِّبين، الذين لا يهتمُّون إلاَّ للمال فقط وليس لحياة اللاجئين. وبذلك فإنَّ الاتِّحاد الأوروبي يخدم من دون قصد - بحسب قول الأب زريع - أولئك المجرمين الذين يدَّعي هذا الاتِّحاد أنَّه يريد محاربتهم. ويضيف موسي زريع أنَّ من واجبه كمسيحي - وكإنسان - أن يهتم برعاية أخيه الإنسان. ثم يقول وهو ينهض: "أنا لا أستطيع إنقاذ الجميع. لكنني أستطيع إنقاذ أكبر عدد ممكن".
أندريا باكهاوس
ترجمة: رائد الباش