مقابر برلين - إعادة استغلالها على أرضية تاريخها العريق
٣٠ أبريل ٢٠١٣يرجع الفضل في بدء اهتمامي بعالم المقابر في برلين لأحد أصدقائي القدامى، الذي كان يعمل في مقبرة بألمانيا الشرقية سابقا. صديقي هذا، لم يكن راض عن النظام القائم هناك آنذاك. لذلك أرسلوه للعمل في المقبرة كحفار للقبور. كان لنظام ألمانيا الشرقية السابق طرقه الخاصة في التعامل مع معارضيه، إذ كان يمنعهم مثلا من الدراسة أو من مزاولة مهنهم المفضلة حتى يتجنب تأثيراتهم المحتملة على غيرهم من المواطنين.
وفي كل الأحوال، لم يكن النظام في ألمانيا الشرقية يحترم حرمة المقابر. فهذا النظام أقدم عام 1961 على بناء الجدار الذي كان يمُر أيضا وسط "مقبرة المعاقين" (Invalidenfriedhof) التاريخية، في تحد واضح لأرواح جنرالات بروسيا المدفونة في تلك المقبرة.
وعلى بعد أقل من كيلومتر واحد من "مقبرة المعاقين"، توجد "مقبرة دوروتي" الحضرية التي لم تتأثر قبورها ببناء جدار برلين. وفي هذه المقبرة التي تعود للقرن الثامن عشر جثامين بعض الشخصيات المشهورة، مثلا الكتاب بيرتولت بريشت وهاينريش مان وكريستا فولف أو المهندس المعماري فريدريش شينكل والرئيس الألماني الأسبق يوهانس راو.
كراء القبر لمدة عشرين عاما
أعترف أنني، لما زرت هذه المقبرة لأول مرة، لم أعر أي اهتمام لوجود قبور هؤلاء المشاهير فيها. وقد يكون السبب في ذلك إلى عدم تركيزي بعدما أثارت انتباهي أعلام بيضاء صغيرة الحجم قبيحة الشكل،ظهرت دون غيرها من تحت نبات اللبلاب في بعض الأماكن. فتساءلت عن دلالات تلك الأعلام الصغيرة، لتقع عيني على عبارة: "انتهت مدة صلاحية استغلال الموضع".
بعدها علمت أنه في ألمانيا يتم تأجير القبور في الغالب لمدة عشرين عاما. وعند انتهاء هذه المدة، يمكن لعائلات الأموات تمديد عقود كراء استغلال قبور ذويهم مقابل دفع مبلغ مالي محدد. وإذا ما تخلفوا عن ذلك، تتم إزالة القبر وإعادة تهييئه لوافد جديد من الأموات. هذه القاعدة لاتطبق على المشاهير، حيث تتكفل سلطات مدينة برلين بأداء واجب كراء تلك القبور. وتعتبر "مقبرة شونبرغ" (Friedhof Schöneberg) المقبرة التي دُفن فيها أكبر عدد من مشاهير المدينة.
مقبرة خاصة بدفن الملحدين
بالنسبة لي تشكل مقبرة غرونفلد فورست (Friedhof Grunewald-Forst) أكثر مقابر برلين إثارة للرعب. وأعتبرها كذلك، ليس فقط لوجودها في منطقة معزولة وسط الغابة، ولكن أيضا بسبب تاريخ إنشائها المخيف. حيث كانت تدفن فيها الجثت المجهولة التي كان يرمي بها نهر الهافل في القرن التاسع عشر. وأيضا جثت المنتحرين الذين كان ُيحرم دفنهم في المقابر التابعة للكنيسة بسبب تجريمها للانتحار آنذاك. ولذلك تعرف هذه المقبرة الى يومنا هذا باسم "مقبرة المنتحرين".
منذ عام 1847 كانت مدينة برلين تتوفر على مقبرة خاصة بدفن الملحدين في المنطقة المعروفة حاليا باسم برينتسلاور بيرغ (Prenzlauer Berg). وقد تم تحويل هذه المقبرة إلى حديقة عام 1990، حيث اختفت الآن معالم القبور وحل محلها فضاء يلعب فيه الأطفال وتقصده أمهات شابات يتجولن أويدفعن عربات أطفالهن.
أكبر مقبرة يهودية في أوروبا
وتسود أجواء خاصة المقبرة اليهودية في حي "فايسن زي" (Weißensee) في شمال شرق برلين. وهي بالنسبة لي إحدى أجمل مقابر المدينة. وقد تأسست عام 1880 وهي في الوقت الحالي أكبر مقبرة يهودية في أوروبا حيث إنها تضم حوالي 115 ألف قبر. وقد دفنت هناك بالأساس جثامين اليهود الذين وافتهم المنية قبل المحرقة. ومازلت المقبرة تستغل حتى الآن.
ومع ازدياد الطلب على خيارات دفن بديلة، مثل حرق الجثت وأشكال الدفن المختلفة في البحر مثلا، ازدادت مساحات الفضاءات المستخدمة للمقابر. مما دفع بمجلس مدينة برلين إلى التفكير في استغلال جزء منها كحدائق للاستجمام والتخفيف عن النفس والتجول مع الاحترام الواجب لحرمة المكان. وهذا ما أقوم به فعلا منذ مدة، حيث أقوم بالركض كل صباح في محيط مقبرة توجد في حي بانكو (Pankow) فأستمتع بأصوات العصافير، مستحضرة قول الكاتب تيودور فونتانه الذي اعتبر أنه "ليس هناك من مكان أكثر حيوية مثل المقبرة".