مفهوم اليمين واليسار الألماني بين إملاءات الواقع وتأثير العولمة
أظهرت النتائج الرسمية للانتخابات البرلمانية الألمانية المبكرة حقيقتين هامتين: أولهما أن ألمانيا ليست على استعداد كاف لإجراء تغيير حكومي جذري وحقيقي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يجعل من هذه الحقيقة نذير شؤم للحكومة الاتحادية القادمة. وثانيهما أن الحزبين الكبيرين، الإشتراكي الديمقراطي الحاكم والإتحاد المسيحي الديمقراطي فقدا مكانتهما الخاصة كقطبين محوريين في خريطة الأحزاب السياسية الألمانية. وبالرغم من التقدم الضئيل لحزب ميركل على حزب المستشار شرودر، إلا أن الحزبين الكبيرين هما الخاسران لهذه الإنتخابات. وفي هذا السياق تطرح التعددية الجديدة في خريطة الأحزاب السياسية الناتجة عن إزدياد قوة الأحزاب الصغيرة (حزب الخضر والحزب الليبرالي)، بالإضافة إلى حزب اليسار الجديد على المشهد السياسي الألماني تساؤلات لا مفر منها حول مفهوم وهوية اليمين واليسار السياسي الألماني.
غياب أرضية إنتخابية لنهج واضح
لقد كانت غاية المستشار الالماني غيرهارد شرودر من إجراء الانتخابات هي الحصول على تفويض جديد من الشعب الألماني، لكي يتمكن من المضي قدماً في تنفيذ سياسة الإصلاح الداخلية. لكنه لم يحصل على ذلك بعد أن أسقط الناخبون الألمان الائتلاف الحاكم المكون من حزبه وحزب الخضر. وبالرغم من ذلك فقد حقق الحزب الاشتراكي الديمقراطي نتيجة جيدة غير متوقعة في الانتخابات بفضل المجهود الذي بذله المستشار شرودر وهالته الإعلامية الجذابة قبيل الانتخابات. أما رئيسة الإتحاد المسيحي الديمقراطي، أنجيلا ميركل، فقد كانت تبغي الحصول على ما هو أكبر، وهو تكليف صريح من الشعب الألماني لممارسة إصلاحات أكثر جذرية من إصلاحات شرودر. لكنها لم تحصل بدورها على هذا التكليف.
ووفقاً لتكهنات المراقبين فإن تكريس وجود حزب اليسار الجديد الذي يتبنى مواقف سياسية تبتعد كثيراً عن وسطية الطيف السياسي الألماني، يعني شرخاً كبيراً في التكتلات الحزبية، لأن صعوده ليصبح قوة سياسية ألمانية مهمة يجعل تشكيل تحالف حكومي بين حزب شعبي (الإشتراكي الديمقراطي والمسيحي الديمقراطي) مع حزب صغير (الخضر أو الديمقراطي الليبرالي) أمراً صعباً جداً. كما ترجح هذه المعادلة الإفتراضية أن تكون الحكومات القادمة مكونة من الحزبين الكبيرين في إطار تحالف كبير، وهو ما سيعني تغييب فعلي لمعارضة حقيقية في البرلمان القادم. ووفقاً لتحليل اللورد رالف دارين دورف، أستاذ السياسة والإقتصاد السابق في جامعة لندن، فإن "بروز راديكالية يسارية يعادله ويوازنه غالباً راديكالية يمينية جديدة تطالب بمزيد من سلطة الدولة في المجال الاجتماعي وتقليص حقوق المواطنة".
تغيير المفاهيم السياسية في ألمانيا
ومن أجل إيضاح طبيعة التغيرات في مفهوم اليسار واليمين الألماني أجرى موقعنا مقابلة تلفونية مع أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولونيا الدكتور سيبو يانسن أشار فيها إلى "انقسام المشهد السياسي الألماني في الستينات وأوائل السبعينات إلى معسكرين كبيرين هما المعسكر الاشتراكي اليساري والمعسكر المسيحي المحافظ". ووفقا لتحليله فإن "تصنيف الأحزاب إلى يمين ويسار في هذا المرحلة كان منطقياً، مع أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الحزب الليبرالي كان يميل إلى اليسار السياسي الذي عنى بحقوق المواطنة، والدفاع عن القيم التنويرية آنذاك". وفي هذا السياق يشير يانسن إلى "بدء التغيير الحقيقي في مفهوم اليسار واليمين بتولي المستشار هيلموت شميدت للسلطة حيث سيطر التيار المحافظ نسبياً على توجهات الحزب الاشتراكي الحاكم آنذاك وهو ما أدى إلى نشوء حزب الخضر الذي خرج عمليا من رحم الحزب الاشتراكي الديمقراطي نظراً لمعارضته الشديدة لسباق التسلح بين القوى العظمي وقرار نصب صواريخ نووية أمريكية متوسطة المدى على أراضي ألمانيا الغربية، علاوة إلى تحول قضية حماية البيئة إلى قضية تشغل شاغل الناخبين الألمان". وفيما يتعلق بالحزبين المسيحيين يشير يانسن إلى "محاولتهما الحفاظ على ميراث عصر كونراد آديناور حتى آواخر السبعينات، ثم تغير نهجمها الإقتصادي وتحول من إقتصاد السوق الاجتماعي إلى الاقتصاد الليبرالي الجديد (نيو ليبرالي) الذي يتماشى مع إملاءات العولمة من دون أن يحاول تطوير صيغ تعاون دولية للتعاطي البناء معها".
الاشتراكية الديمقراطية وتحديات العولمة
وفي هذا السياق يمكن إعتبار السيرة الذاتية للمستشار الحالي غيرهارد شرودر نوعاً من التجسيد الشخصي للتحولات في مفاهيم اليمين واليسار السياسية، فالمحامي الشاب شرودر إنضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في عام 1963. ومن خلال عمله السياسي في الفترة ما بين 1978 ـ 1980 في إطار منظمة شبيبة الاشتراكيين التابعة للحزب الإشتراكي الديمقراطي، والتي أصبح فيما بعد رئيساً لها، بدأت توجهاته السياسية في التبلور حيث تميزت بميولها إلى تبني مواقف يسارية آنذاك. وفي عام 1980 انتخب شرودر عضواً في البرلمان الألماني لأول مرة، ثم أصبح في عام 1986 عضواً في الأمانة العامة والمكتب التنفيذي للحزب الاشتراكي الديمقراطي. ولكن نقطة التحول الرئيسية إلى "اليمين الاشتراكي" في رؤية السياسي الشاب شرورد السياسية تزامنت مع توليه مهام سياسية على أرض الواقع، وهذا ما خرج إلى دائرة الضوء حين أصبح شرودر رئيساً للكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي في برلمان ولاية ساكسونيا السفلى التي تولى رئاسة حكومتها بعد فوزه بانتخاباتها في عام 1990 ومن ثم فوزه بالانتخابات البرلمانية الألمانية كمرشح للحزب الاشتراكي الديمقراطي في عام 1998 لينهى بذلك هيمنة الحزب المسيحي الديمقراطي وزعيمه هيلموت كول على الحياة السياسية الألمانية التي إستمرت 16 عاماً. والجدير بذكره في هذا السياق أن شرودر تبني رؤية سياسية جديدة أطلق عليها "الوسط الجديد" (شبيهة برؤية الطريق الثالث لتوني بلير في بريطانيا)، وهذا بدوره يشير بوضوح الى أن متغيرات عصر العولمة تتطلب تياراً سياسياً جديداً يحاول التوفيق بين "العدالة الإجتماعية وتحديات الحداثة المتعولمة".
تحليل: لؤي المدهون