معرض دوكيومنتا.. ستون عاماً من تاريخ الإبداع والفن الألماني
٢٩ مايو ٢٠١٢بدأت أزهار الربيع تتفتح وتزين مدينة كاسل بعد عشر سنوات من الدمار الذي لحق بها. فالمدينة التي دمرتها القنابل خلال الحرب العالمية الثانية، بدأت تظهر في شوارعها من جديد تصاميم الحدائق. والمعرض الاتحادي للحدائق صاحبه معرض فني مميز، هو معرض "دوكيومنتا1". هذا المشروع الذي أصبح بعد ذلك مشروعا رائدا في تاريخ الفن. في البداية كان النية مقتصرة على تزويد المعرض الاتحادي للحدائق ببعض التماثيل فقط، لكن الأمر تطور بعدما انشأ الفنان آرنولد بوده جمعية فنية برأسمال وصل إلى ما يقارب الـ 400 ألف مارك ألماني مكنته من عرض 670 عملا فنيا.
التغلب على الماضي
هدف "دوكيومنتا1" كان العودة إلى الفن الألماني في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية. هذا ما يقوله مانفريد شنكينبيرغر، رئيس أمانة المعرض، والذي يضيف "كان الغرض من جمع هذه الأعمال الفنية، هو منح الناس فرصة لمشاهدتها من جديد، بعد أن كانت قد اعتبرت أعمالا زائلة".
منع آرنولد بوده من ممارسة عمله الفني خلال حكم النازيين. لكن أعيد الاعتبار إليه كواحد من الفنانين الرائدين الذين نبذوا خلال الحقبة النازية. ومنهم أيضا: فيلهلم ليمبروك، اوسكار شليمر، ماكس بيكهام، ايرنست لودفيغ كيرخنر، وآخرون اشتهروا بعد ذلك. ورغم أن معرض "دوكيومنتا1" يقدم نفسه على أنه معرض دولي، لكنه ركز في بداياته على عرض الأعمال الفنية ألألمانية. مثلما يوضح مانفريد شنكينبيرغر بالقول" كانت هذه مراجعة. نظرة نحو المستقبل، نظرة لم تعايش الحاضر بعد".
وكيف يمكنها ذلك، فقد كانت كاسل عام 1955 مدينة محطمة. مرت عليها الأعجوبة الاقتصادية لألمانيا في الخمسينات مرور الكرام. فقد كان أكثر من 80 % من المدينة مدمر نتيجة الحرب، بالإضافة إلى وضع اقتصادي مزر، وارتفاع كبير في عدد العاطلين عن العمل. لكن ارنولد بوده قام بعمل رائع، من خلال تطويره فكرة للتنمية الاقتصادية من خلال الفن. والذي يعد لغاية اليوم الحبل السري للعمل الفني في مدينة كاسل. ما أهله عدة مرات ليكون مشرفاً على اختيار الأعمال الفنية.
التنوع الفني
بعد ذلك ترأس المعرض الخامس في عام 1972 السويسري هارلاد زيمان، الذي دعم عرض الأعمال الفنية المعاصرة بكل تعقيداتها وإشكالياتها، مثلما يقول مانفريد شنكينبيرغر، الذي مازال يتذكر التصاميم الفوضوية في حينها. وللمرة الأولى تم طرح مواضيع مهمة مثل:"سؤال للواقع- صوّر من عالم اليوم". أو الموضوع الذي جلب انتباها كبيرا حول الديمقراطية المباشرة "مكتب المنظمة المختصة في الديمقراطية المباشرة عن طريق الاستفتاء الشعبي". فقد قام حينها جوزيف بويل بإجراء نقاش مفتوح لمدة مائة يوم حول مسألة الديمقراطية المباشرة وحول سبل تحقيقها ومدى واقعية هذا الطرح. كما منح هارلاد زيمان كثيرا من الفنانين الأمريكان فرصة للدخول إلى عالم الفن الألماني من خلال المعارض التي تواصلت بعد ذلك.
حمل كل معرض توثيقي رقما وهوية خاصة، ففي المعرض السادس "دوكيومنتا 6 " الذي أقيم في عام 1977 اهتم المعرض بوسائل الإعلام، من خلال الاهتمام بفن الفيديو والتصوير الفني. يقول شنكينبيرغر عن ذلك "لم يقم المعرض التوثيقي بمعالجة فن التصوير فقط، بل منح هذا النوع من الفن مكانه بين الفنون في ألمانيا". أما "دوكيومنتا 7 " فقد اهتم بالتشجير، تحت شعار" تشجير المدينة بدلا من إدارتها " قام جوزيف بويل بتشجير المدينة بسبعة آلاف شجرة بلوط، العمل الذي انتهى بعد خمس سنوات من البدء به.
من المحلية إلى العالمية
انتظرت هذه المعارض التوثيقية حتى عام 2002 لتهتم بمناطق أخرى حول العالم. فأمين المعرض الحادي عشر "دوكيومنتا 11" اوكفوي انفيزور، الذي ولد في نيجيريا وترعرع في الولايات المتحدة الأميركية، بحث خلال المعرض التوثيقي مسألة الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وقام بتأسيس ما يسمى بالمنصات، لنقل الأعمال الفنية من كاسل وعرضها حول العالم. نحو نيودلهي، لاغوس أو فيينا. أما كارولين كريستوف- باكارغيف أمينة معرض "دوكيومنتا 13" فقد وسعت من دائرة هذا المعرض ليشمل فنانين من 50 دولة، من صحراء أستراليا إلى القطب الشمالي.
منذ البداية عام 1955 وحتى اليوم مرت عدة عقود، أثرت خلالها الأحداث الثقافية والمادية على الإتجاه الفني. لكن المعارض التوثيقية "دوكيومنتا" أثبتت وجودها عالميا. مثلما يقول مانفريد شنكينبيرغر "ما دمنا نستطيع إلهام الناس للأعمال الفنية المعاصرة. فإننا لم نصل إلى رسالتنا التي كنا نبتغيها فقط، بل إننا أثبتنا أنه المعرض الأكثر أهمية بين المعارض عالميا".
سابينه اولزه/ عباس الخشالي
مراجعة: عارف جابو