معارضة عاجزة وشارع منقسم.. هل يتجه قيس سعيّد للحكم الفردي؟
٢٤ أغسطس ٢٠٢١مرّ شهر على قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة، ولم يعلن بعد عن خارطة الطريق الذي وعد بها، مقابل استمرار قرارات بالاعتقال أو بحظر السفر بحق عدة شخصيات سياسية واقتصادية، واستمرار سعيّد في وعيده للأطراف التي يرى أنها تعرقل خططه.
وآخر القرارات إعلان سعيّد استمرار الإجراءات الاستثنائية، دون أن يعطي تاريخاً محدداً لإنهاء هذا الوضع. وخلال 30 يوما من "الحكم الفردي"، أرسل سعيّد إشارات بارزة لخصومه أنه عازم على وضع بصمته، بينما انكفأت حركة النهضة على نفسها ولم تعد تهاجم الرئيس كما فعلت خلال أولى أيام انقلابه عليها.
قرارات متعددة
أقال سعيّد عدة مسؤولين في مجموعة من المؤسسات كالحكومة والتلفزيون الرسمي وهيئة محاربة الفساد وسلك الولاة والأمن، وتحرّك القضاء لفتح تحقيقات مع أحزاب بخصوص "التمويل الأجنبي"، كما تم اعتقال نواب وفُتحت تحقيقات مع آخرين بعد رفع الحصانة عنهم بسبب قضايا مثيرة للجدل.
وتواصلت الإجراءات بوضع شخصيات تحت الإقامة الجبرية بينهم قضاة ونشطاء، ما أثار تساؤلات حول اتجاه الرئيس سعيّد إلى تثبيت أركان الحكم المطلق في بلد يعتبر أنجح البلدان العربية في مجال الانتقال الديمقراطي.
غير أن ما يثير القلق في بلاغ سعيّد حول تمديد الإجراءات الاستثنائية حسب طارق الكحلاوي، المدير العام السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية (ما بين 2012 و2014)، هي جملة "حتى إشعار آخر". فإذا كان الرئيس يستفيد حالياً من زخم شعبي، فإن استمرار الوضع على ما عليه دون أفق سياسي ودون انتخابات مبكرة سيتسبب في مشكلة له في المستقبل، وفق قول الكحلاوي لـDW عربية.
بدوره يرى صلاح الدين الجورشي، إعلامي ومحلل سياسي، في تصريحات لـDW عربية أنه بعيدا عن المسوغات الدستورية التي وُجدت لاستمرار الإجراءات الاستثنائية، فالبلاغ قد يعني استمرار فتح ملفات قضائية جديدة والتوسع في الإجراءات السابقة ووضع أشخاص جدد تحت الإقامة الجبرية، وهو ما يثير حيرة واسعة لدى الطبقة السياسية والحقوقية.
بيد أن الاعتقالات والتحقيقات القضائية تثير تخوفاً حول إذا ما كان الرئيس يريد بسط يده على مؤسسة القضاء. التخوف ظهر في بيان لـ45 قاضيا أعربوا مؤخراً عن صدمتهم من "الانزلاق الخطير الذي تردّت إليه السلطة التنفيذية في تعاملها مع السلطة القضائية، بالتعدّي على سلطات المحاكم واختصاصات المجلس الأعلى للقضاء".
ويرى الكحلاوي أن سعيّد يريد فعلاً الضغط على القضاء لتسريع النظر في ملفات الفساد، لكن القضاء يسير بوتيرة بطيئة كما يقاوم ضغوط الرئيس. ويعتقد الكحلاوي أن الصدام قد يحدث بين الرئاسة والقضاء في حال لم تتطابق الوتيرة التي يشتغلان بها، وقد يتجه سعيّد حينها إلى حل المجلس الأعلى للقضاء.
وبعد إسقاط الحصانة على النواب، صار ممكناً للقضاء متابعة عدد منهم، لكن هل التحرّك أوتوماتيكي؟ يرّد الجورشي أن القرارات القضائية الأخيرة هي تحرّك ذاتي في جزء منها، لكن الجزء الأكبر هي بتحرك من رئاسة الجمهورية أو تحديداً وزارة الداخلية التي تحدد الأشخاص المشتبه بهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، وعدد من القرارات تثير بالفعل تساؤلات لدى المراقبين وفق قوله لعدم وجود خيط رابط بينها.
ماذا يريد قيس تحديداً؟
استنجد قيس سعيّد بالدستور ليبرّر تجميده عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة، ولا يزال يؤكد أنه يتحرك ضمن الدستور، بينما ينقسم الرأي العام المتابع لتونس بين تأكيد على حق الرئيس في هذا التحرك وبين من يرى أنه انقلاب على المؤسسات تمهيدا لعودة الحكم الفردي المطلق في تونس ولو بشكل غير صريح عكس ما وقع في عهد زين العابدين بن علي.
غير أن الجورشي يرى أنه لا يمكن تشبيه قيس سعيّد بزين العابدين، وأن كل واحد منهما لديه طريقته المختلفة بشكل كلي. لكن المشكل، حسب الجورشي، أن الرئيس سعيّد غامض وبرنامجه الانتخابي يحتاج للكثير من الشرح، إذ يتضمن عناصر "ملغومة" يمكن في حال السعي لتطبيقه أن تفجر المنظومة السياسية ككل، وتبني منظومة قاسية على التونسيين وغير مقبولة في النظام الدولي.
لكن من جانبه، يرى الكحلاوي أن مشروع قيس سعيّد لا يؤسس لحكم فردي على المدى الطويل، بل تغيير النظام السياسي نحو نظام رئاسي-مجالسي، أي إنشاء مجالس محلية سياسية على المستوى المحلي تمرّ إلى البرلمان عبر الانتخابات، بينما تكون السلطة التنفيذية بيد رئيس منتخب، في شكل قريب نوعاً ما من النظام الأمريكي حسب قوله. والأغلب حسب الكحلاوي أن سعيد سيدفع نحو استفتاء شعبي لتشكيل هذا النظام.
أين هي القوى المعارضة؟
لم تعد حركة النهضة تواجه قرارات سعيّد بالنبرة نفسها التي كانت قبل شهر، واختفت مشاهد احتجاجات أعضائها والمتعاطفين معها. أقوى تجمع سياسي في البلد، عبر بياناته الأخيرة، يظهر مُهادناَ بشكل كبير للرئيس سعيّد في قراراته الأخيرة، بل لم يصدر عنه أيّ تعليق حول تمديد الإجراءات الاستثنائية، وهناك من يقول إن عدوى هذه الإجراءات أصابت الحركة نفسها التي قرّر رئيسها، راشد الغنوشي، إعفاء مكتبها التنفيذي وتشكيل مكتب جديد.
ويرتفع صوت الحركة، وأصوات هيئات شخصيات تونسية، ضد سعيّد بشكل خاص حول قرارات المنع من السفر، كما تستمر تحذيرات خبراء بأنه يستمر في "انقلاب أبيض"، لكن بشكل عام هدأت المعارضة كثيراً، وحتى الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر قوة غير سياسية، لم يصدر عنه ما يزعج الرئيس.
يقول الكحلاوي إنه من الواضح أن الرئيس سعيّد ليس في عجلة من أمره، وأنه يملك المبادرة السياسية الكاملة في البلد، إذ لا توجد ضغوط داخلية عليه، بما أنه يملك زخماً في الشارع، كما لا توجد ضغوط خارجية عليه رغم الحذر الأمريكي وغياب الارتياح لرئيس غامض.
بدوره يؤكد الجورشي أن الطريق بات سالكا لقيس سعيّد، ويمكنه حالياً أن يتخذ أي قرار هو مقتنع به. وما سهّل الأمر أمامه أن الأحزاب الكبرى في حالة عجز وتعاني من أزمة ثقة مع مكوناتها، كما يعاني المجتمع المدني ضعفاً كبيرا.
غير أن أكبر تحدٍ لقيس سعيد هو الوضع الاقتصادي المتردي في البلد. فالكثير من التونسيين شجعوا إجراءاته أملاً في إنهاء أزمة خانقة ضربت القدرة الشرائية للمواطنين وفاقمت البطالة ورفعت أسعار المواد الغذائية. يشير الجورشي هنا أن هذه الأزمة بالفعل هي التهديد الأكبر للرئيس، وأنه إذا لم يجد لها حلاً، فستكون مدخلاً لإعادة تشكيل المشهد السياسي.